توجه معمر القذافي، الزعيم الليبي في ذلك الوقت، إلى حشد من معجبيه (على ما يبدو)، متحدثاً بصيغة الغائب، فقال: “ليس معمر القذافي رئيساً ليستقيل، وليس لديه برلمان حتى ليحل”.

شدد الرجل، وهو يقف بطريقته المعهودة رافعاً ذقنه وملقياً نظرة إلى أسفل، على أنه “لا منصب يستقيل منه”. هلل جمهوره كما يملي عليهم الواجب، مؤيدين كلامه. حصل ذلك بعد أسبوعين تقريباً من اندلاع ثورة عام 2011 التي تحولت إلى حرب أطاحت به في النهاية.

في ذلك الحين، أذكر أنني فكرت في أنه لا بد أن يرمي الكلام الدعائي هذا لكي يبقي مناصريه، محبي كتابه الأخضر شبه المجنون، في صفه، لكنني علمت لاحقاً أنه كان يؤمن بما يقوله فعلاً، وأنه كان على الأرجح يعيش في حالة من الوهم.

بعد عقود قضاها وسط “جوقة المصفقين” المرتعبين والمتطفلين المنافقين المتملقين، يبدو أنه وصل بالفعل في النهاية إلى مرحلة تصديق ما كان يتفوه به من هراء. ابتعد عن الواقع لدرجة دفعته إلى اتخاذ قرارات متهورة ومجنونة، ولم يستوعب في النهاية ما كان يجري حوله.

بعد مرور فترة طويلة على مقتله، وتفكيك نظامه، وسقوط ليبيا في دورة بعد دورة [الدوران في دائرة مفرغة] من العنف العقيم، توجهت إلى طرابلس لتغطية آخر الحروب. في عام 2014 أخبرني صديق وزميل صحافي ليبي عن لقاء جمعه بأحد مساعدي القذافي المقربين بعد احتجاز الثوار له.

قال المساعد، إنه في اللحظة التي أصبح فيها الحظر الجوي الذي فرضه “الناتو” موجعاً فعلاً، وارتفعت حصيلة الوفيات، وصار من الواضح أن زمن القذافي انتهى، توسل شخصياً إلى الزعيم بأن يتنحى عن منصبه ويفاوض على صفقة تكون بمثابة مخرج آمن لهم جميعاً.

في رده على طلبه، شدد القذافي من جديد على أنه لا يمكنه التنحي لأنه لا يشغل منصباً يتنحى منه، وقال إنه استقال في عام 1979، ومنذ ذلك الوقت، هو الأخ قائد الثورة، وهمهم سائلاً: “كيف يمكنني الاستقالة من الرئاسة، وأنا لست رئيساً؟”، كان الرجل غارقاً في الوهم، كما قال مساعده لصديقي.

يمكن للمقارنات أن تكون كسولة، ولكن فيما أعمل على تغطية هذا الاجتياح الدامي والرهيب لأوكرانيا، لا يسعني سوى أن أقلق من أن يكون شيء مماثل يحدث في روسيا. لا أعني أن الرئيس بوتين غير سوي عقلياً. بل أعتقد أن هذه القراءة للوضع غير مفيدة وغير دقيقة. إنما بعد عقود من رعب شديد كان يثيره في النفوس، قسم من الناس بين خائف من مواجهته، ومتورط معه لدرجة تمنعه من انتقاد تحركاته، بعد عمر كامل من “جوقة المصفقين” هو يبدو الآن منفصلاً عن الواقع على مستويات كثيرة. وقد أصبح بالتالي مفرط الثقة بالنفس، ومتهوراً وغاضباً.

هو معزول بكل ما للكلمة من معنى: يبدو أنه يصدر كل قراراته هذه الأيام من أحد طرفي طاولة كبيرة جداً. رأينا ملامح من هذا الوضع عندما وبخ رئيس استخباراته على نحو سخيف [عبثي] إلى حد ما قبل أن يشن أكبر اجتياح بري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

جلس وحيداً في غرفة ثانية مزخرفة بشكل مضحك وسخيف، وأخذ يسائل أعضاء مجلس أمنه واحداً تلو الآخر قبل أن يحرج سيرغي ناريشكين الصارم عادة، وطلب منه مرات عدة أن يوضح ما يقوله أن “يتكلم بوضوح”.

كان ناريشكين يتلعثم فعلياً. يقول بوتين في النهاية بابتسامة قاسية، “شكراً لك، يمكنك العودة إلى مكانك”. كُتب الكثير في تحليل ما إذا كان هذا الموقف مدبراً أم لا (لم يكن البث مباشراً). ولكن القلق الشديد في الغرفة بدا حقيقياً، وقد ذكّرني بأحد المخاطر المتعلقة بالديكتاتوريين المعزولين الذين لا يُقال لهم سوى ما يريدون سماعه، ولكن يستمرون في الاحتفاظ بكافة الصلاحيات للتصرف تبعاً لذلك [بناء على ذلك]. وإطلاق النار على المدنيين.

يعدّ القذافي مثالاً متطرفاً على ذلك، وتحضر في بالي صورته وهو يقول إن الإعلاميين كلاب، وهو يحمل مظلة ويركب عربة “توك توك” بينما كانت قواته ترتكب المجازر بحق آلاف الأشخاص، ولكنه ليس الديكتاتور الوحيد المعزول الذي فتح أبواب الجحيم على مصراعيها من داخل فقاعته. يمكنكم سماع الذهول في التسجيلات السرية التي نشرتها “بي بي سي عربي”، عن تحركات زين العابدين بن علي الأخيرة أثناء اندلاع الثورة التونسية في عام 2011.

يتحدث بن علي بنبرة فيها شكوى إلى وزير دفاعه بعد أن نصحه بالبقاء خارج البلاد التي فر منها للتو “ماذا فعلت للشارع؟ لقد خدمته”. جاء ذلك بعيد قيامه باتصال هاتفي مسجل وخادع مع قطب الإعلام المقرب منه طارق بن عمار، قبل يومين من تقديمه استقالته رسمياً.

يقول بن عمار في التسجيل، “كنت رائعاً، هذا هو بن علي الذي كنا ننتظره”، وأضاف، “إنها عودة تاريخية. أنت رجل الشعب. أنت تتحدث لغته”.

أن يكون الديكتاتور القوي محاطاً بجوقة مصفقين ومتطفلين خادعين لهو مزيج قاتل. ربما هذا ما كان يدور بين جدران الكرملين كل هذه السنوات. سوف تكون العواقب كارثية على روسيا، بسبب العقوبات الدولية اللاذعة [عقوبات مُحكمة] التي تُفرض على نظام هو أشبه بخليط من الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية في عصرنا هذا (أقله وفقاً لبعض الروس الذين هربوا من البلاد).

ولكن لا شك في أن أوكرانيا تتلقى أقسى الضربات، ويدفع مواطنوها ثمن هذا الاجتياح المجنون الذي لا طائلة منه، بدمهم. أوكرانيا تتحمل وزر تخيلات بوتين.

تعليقات