رشيد خشــانة – إذا كان هناك من مستفيد من الحرب الروسية الأوكرانية فهُما رئيس مجلس إدارة مجموعة «سوناتراك» الجزائرية توفيق حكار ورئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا مصطفى صنع الله. ويتضح من الزيارات المتواترة لمسؤولين في الشركات النفطية والغازية العالمية إلى كل من الجزائر وليبيا في الفترة الأخيرة، أن هناك قرارا للاستعاضة، جزئيا على الأقل، عن الغاز الروسي بالغاز الليبي، والجزائري في المرحلة المقبلة. وفي هذا الإطار تعتزم المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا استئناف العمل في تهيئة ثلاثة آبار غازية تقع في منطقة حمادة وعطشان وعروس البحر، في محيط مدينة سرت (شمال الوسط). وستكون معاودة التهيئة مُتاحة بعد العودة المرتقبة للمستثمرين الأجانب إلى ليبيا. وأفاد زوار تحدثوا أخيرا مع صنع الله أن من أبرز أولوياته استقطاب مستثمرين أجانب وتطوير الإنتاج في الآبار ذات المخزون المؤكد، والتي ظلت متوقفة، بسبب اضطراب حبل الأمن في البلد، طيلة السنوات الماضية.
واللافت أن من أوائل المجموعات النفطية التي استأنفت مؤخرا أعمال التفتيش والتهيئة، الشركة النفطية الروسية «تاتنيف» التي تقوم بأعمال الاستكشاف في منطقة الحمادة الواقعة في حوض غدامس (شمال غرب) على الحدود التونسية الليبية. وكانت هذه المجموعة الروسية توصلت في 2007 إلى اتفاق مع السلطات الليبية للاستكشاف والإنتاج، ما يجعل عودتها إلى ليبيا اليوم ترتدي طابعا سياسيا، ليس فقط على صعيد العلاقات الاقتصادية الليبية الروسية، وإنما أيضا على الصعيد الداخلي، إذ أن روسيا تدعم القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر. وعلى بُعد 100 كيلومتر من سرت بدأ العمل في تهيئة حقل «مبروك» الذي عُهد بتطويره إلى مجموعة «توتال إنرجيز» الفرنسية، وتُقدر طاقته الإنتاجية بـ40 ألف برميل في اليوم، إلا أنه لم يصل إليها بسبب الوضع الأمني غير المستقر.
ويستعد الليبيون لتطوير إنتاج الغاز في حقول بحرية وحقول أخرى على اليابسة. وكان هذا الموضوع محور بحث بين مصطفى صنع الله والمدير الإقليمي لمجموعة «توتال إنرجيز» الذي زار ليبيا مؤخرا. ويأمل الليبيون الرفع من معدلات الإنتاج، واستئناف المجموعة الفرنسية عمليات التفتيش في بعض المواقع. وأفاد موقع «المؤسسة الوطنية للنفط» على شبكة «فيسبوك» أن الجانبين ناقشا سبل التعاون المشترك لتنفيذ حزمة من الأهداف، أبرزُها استئناف «توتال» عمليات الاستكشاف في بعض المواقع والرفع من معدلات الإنتاج، بالإضافة لمساعدة الليبيين على التقليل من الانبعاثات الكربونية، ومساهمة المجموعة الفرنسية في إدخال تقنيات الطاقات المتجددة في جميع العمليات بقطاع النفط والغاز الليبي. وأخرج مصطفى صنع الله من دفاتره خلال الاجتماع مع الوفد الفرنسي، مشروعا مُهما لدى الليبيين، يتمثل في إنشاء مصفاة للنفط والغاز في الجنوب الليبي. وكان النظام السابق أعلن عن المشروع في ثمانينات القرن الماضي، وتُقدر كلفته بـ500 مليون دولار، ثم تخلى عنه. وإذا ما نُفذ المشروع في المستقبل سيُؤمن حاجات الجنوب من المحروقات، إذ تقدر طاقة إنتاج المصفاة بـ3 ملايين لتر في اليوم.

أيام برلوسكوني

وفي استمرار للمنافسة التقليدية الفرنسية الإيطالية زار ليبيا أيضا الرئيس التنفيذي لمجموعة «إيني» الإيطالية، كلاوديو ديسكالزي، واجتمع مع صنع الله في السياق نفسه. وأوضح ديسكالزي أن «الحرب في أوكرانيا تجبرنا على رؤية العالم بشكل مختلف عما كنا نعرفه» مُضيفا أن «هذه مأساة إنسانية ولدت تهديدات جديدة لأمن الطاقة التي يجب أن نواجهها من دون التخلي عن طموحاتنا في انتقال عادل للطاقة». وفي هذا الإطار يسعى الجزائريون والليبيون لتنفيذ مشاريع نفطية وغازية جديدة، مثل المشروع الذي انطلق الشهر الماضي في منطقة بركين الجنوبية. وكانت إيطاليا حصلت على أيام رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلوسكوني على امتيازات خاصة في قطاع النفط والغاز الليبي، بموجب اتفاقات وقعت عليها ليبيا مع مجموعات إيطالية. وتستورد إيطاليا حاليا 17 في المئة من حاجاتها النفطية و23 في المئة من حاجاتها الغازية من ليبيا، فيما تسعى فرنسا التي قادت الحملة الأطلسية على النظام السابق في 2011 إلى تحصيل تسهيلات مماثلة، لفائدة مجموعة «توتال» فضلا عن رغبتها باستعادة نفوذها في منطقة فزان (جنوب) التي وضعتها الأمم المتحدة تحت الإدارة الفرنسية، بُعيد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.
ولوحظ أن رؤساء المجموعات النفطية الكبرى المُستثمرة في ليبيا أو المتعاملة معها زاروا طرابلس في الفترة الأخيرة وناقشوا مع رئيس «المؤسسة الوطنية للنفط» صنع الله وسائل تطوير التعاون بين الجانبين.
ويمكن اعتبار زيادة صادرات الغاز إلى البلدان الأوروبية مطلبا أمريكيا، بالإضافة لكونه مطلبا أوروبيا، وقد أبلغته واشنطن رسميا إلى كل من الجزائر وليبيا، فقد أفيد أن هذا الموضوع شكل أحد المحاور المهمة في الزيارة التي أداها أخيرا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للجزائر ومحادثاته مع الرئيس عبد المجيد تبون ووزير الخارجية رمطان العمامرة.
أما صنع الله فأكد لمخاطبيه أن القطاع النفطي في ليبيا يواجه صعوبات وتحديات كبيرة سببُها قلة التمويل وشُح الموازنات المخصصة للقطاع، ما جعله عاجزا عن التوسع وزيادة الإنتاج وصرف رواتب عماله وتنفيذ مشاريعه، ومن بينها إقامة مصنع جديد للغاز.
وتأخير المشاريع هذا هو السبب في مختنق نقص الوقود بالجنوب. وكان مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية أعطى الشهر الماضي موافقته للمؤسسة الوطنية للنفط على التعاقد لتنفيذ مشروع إنشاء مصفاة لتكرير النفط واستخلاص غاز الطهي من الغازات المحروقة، في حقل الشرارة النفطي جنوب غرب ليبيا، وذلك بقيمة تعادل 600 مليون يورو.

تحالفات راسخة

لكن كلاوديو ديسكالزي الذي شرح أخيرا «الخطة الاستراتيجية للمجموعة حتى 2025» أكد أن هذه الاستراتيجيا مكنت من الاستعداد لمواجهة التحديات الراهنة، وخاصة تداعيات الحرب في أوكرانيا. وأوضح أن الاستجابة الفورية للأزمة الحالية تمثلت «في استخدام تحالفاتنا الراسخة مع الدول المنتجة لإيجاد مصادر بديلة للطاقة لتلبية الاحتياجات الأوروبية».
وتكريسا لهذا الانعطاف تكثفت زيارات كبار المسؤولين الإيطاليين إلى الجزائر، بدءا من الرئيس سيرجو متاريلا، إلى رئيس الوزراء ماريو دراغي، ثم وزير الخارجية لويجي دي مايو، الذي كان مرفوقا برئيس مجموعة «إيني» ديسكالزي. وناقش الوفد مع رئيس مجموعة «سوناتراك» توفيق حكار الملف نفسه، أي الترفيع من كميات الغاز المصدرة إلى البلدان الأوروبية. وتعتمد إيطاليا على الغاز الروسي لتأمين 45 في المئة من حاجاتها، لكن الايطاليين يبحثون عن مُصدرين آخرين انسجاما مع المواقف الأوروبية التي قررت مقاطعة الغاز الروسي.
ويأمل الإيطاليون والجزائريون بزيادة تدفق الغاز عبر الأنبوب الحالي المعروف باسم «ترانسميد ـ أنريكو ماتيي» للمحافظة على ما يُسمونه «الأمن القومي الطاقي». وينقل الأنبوب الغاز الطبيعي من الصحراء الجزائرية إلى جزيرة صقلية عبر الأراضي التونسية منذ سنة 1983. وارتفعت صادرات الغاز من الجزائر إلى إيطاليا العام الماضي بنسبة 76 في المئة إلى 21 مليار متر مكعب، وهو ما يمثل 28 بالمئة من مجمل الاستهلاك، غير بعيدة عن حجم الإمدادات الروسية لإيطاليا التي بلغت 29 مليار متر مكعب. وتبلغ طاقة نقل أنبوب الغاز «ترانسميد» 32 مليار متر مكعب سنويا، أي أربعة أضعاف حجم أنبوب «ميدغاز» الذي يزود إسبانيا بالغاز الجزائري.
لكن ما زالت سعة الأنبوب الجزائري قادرة على استيعاب المزيد من كميات الغاز. وأفيد أن الجانبين ناقشا هذا الموضوع في مداه القريب والمتوسط. وتملك الجزائر مخزونا كبيرا من الغاز الطبيعي يُقدر بـ150 تريليون قدم مكعب، وهي تحتل الرتبة 11 عالميا بفضل ذلك المخزون.
كما أنها تخطط لاستثمار 40 مليار دولار بين 2022 و2026 في استكشافات النفط والإنتاج والتكرير، وكذلك استكشاف الغاز واستخراجه. وبالنظر لقرب المسافة بين جنوب أوروبا والسواحل الجزائرية، يمكن أن تُصبح الجزائر شريكا استراتيجيا لأوروبا، خاصة أنها تُؤمن لها حاليا 42 مليار متر مكعب من الغاز، أي 11 في المئة من حاجاتها إلى الغاز.

عقبتان

لكن هذه البدائل غير ممكنة في الوقت الراهن، إذ هناك عقبتان تُؤخران تدفق الغاز الجزائري بكميات أكبر على أوروبا، والأولى هي أن الغاز الروسي يُنقل إلى البلدان الأوروبية عبر أنابيب، بينما ستحتاج الجزائر إلى محطات تسييل قبل شحن الغاز. أما العقبة الثانية فهي أن إجمالي المعروض الجزائري الحالي لا يمكن أن يُعوض الصادرات الروسية من الغاز، فموسكو تُؤمن حاليا 55 في المئة من المستوردات الغازية لأوروبا. أما الجزائر فيُقدر الخبراء أن يتضاعف حجم منتوجها في غضون أربع سنوات إذا ما بدأ الإنتاج فعلا في الآبار الجديدة.
ويُنقل الغاز الجزائري حاليا إلى إسبانيا بواسطة أنبوب «ميدغاز» الذي ينطلق من السواحل الجزائرية إلى مدينة المرية على الساحل الجنوبي لإسبانيا. غير أن الأزمة الحادة التي اندلعت يوم 18 آذار/مارس الماضي بين الجزائر وإسبانيا، في أعقاب إعلان مدريد دعمها للحل الذي تُريده الرباط لتسوية النزاع على الصحراء الغربية، سمم العلاقات الثنائية وحمل الجزائريين على رد الفعل بالترفيع من سعر الغاز المُصدر لاسبانيا.
وعلى الرغم من أن الجزائر لن تقبل بسهولة الحلول محل حليفتها روسيا في تأمين الغاز لأوروبا، فإن زيادة العرض في الأسواق، ستُعزز مكانتها بوصفها لاعبا إقليميا قويا قادرا على لعب أدوار أهم من الأدوار السابقة.
مع ذلك، يمكن القول إن الفرصة التي تُتيحها للبلدان المغاربية مقاطعةُ أوروبا للغاز الروسي، ستكون فرصة أخرى ضائعة، فقد كان بالامكان أن يُعالج هذا الملف في إطار جماعي، وبرؤية تكاملية، أسوة بمد أنبوب «ترانسميد» نحو إيطاليا وأنبوب «ميدغاز» العابر للأراضي المغربية إلى إسبانيا، في ثمانينات القرن الماضي، وكان ذلك في ظل تقارب أدى إلى قيام الاتحاد المغاربي (تأسس في 1989 بمراكش). واليوم بات إطلاق مثل هذه المشاريع الإقليمية حلما مضى، منذ آخر قمة مغاربية في 1994 التي توقف فيها مُحرك السيارة، ويبدو أن الغاز غير مُفيد لمعاودة تشغيله.

تعليقات