حاوره: رشيد خشـــانة – اعتبر عالم الاجتماع الليبي الدكتور مصطفى عمر التير أن الليبيين لم يستطيعوا إرساء نظام سياسي يعتمد على معيار الكفاءة. وحذر في حوار مع «القدس العربي» من انتشار الفساد حاليا في ليبيا على نطاق أوسع من الماضي. والدكتور التير باحث نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مينيسوتا الأمريكية (1971) ودرّس في جامعات ليبية وأمريكية مختلفة، وكان مديرًا لمعهد الإنماء العربي. كما أصدر عدة مؤلفات في علم الاجتماع، من أشهرها كتابه «صراع الخيمة والقصر: رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي».

 

وهنا نص الحوار.
تدخل أخيرا وجهاء مدينة مصراتة لمنع اندلاع قتال بين أنصار عبد الحميد الدبيبة والموالين لفتحي باشاغا في مداخل طرابلس، فهل ما زال لهذه القيادات التقليدية دور في حياة المجتمع السياسية؟
• دورٌ ضعيف جدا، لكن فعلا في طرابلس يبدو أن هؤلاء هم من منع الصدام، وأن الطرف الذي انسحب كان يعلم أنه لا يملك نفس المثقال من القوة.
والخطير في الموضوع أن الطرفين من مصراتة (شمال وسط) وهذا يدلُ على انقسام في المدينة التي هي ثالث المدن الليبية. وهناك من يقول إذا ما حدث ذلك الانقسام الكبير بين زعامتين، ستغدو الطريق سالكة أمام اللواء خليفة حفتر ليغزو العاصمة، وهذه مشكلة عويصة.

وكيف تصف الوضع في طرابلس؟
• سيءٌ للغاية. ونحن نسمع عن حكومة وطنية قيل إنها ستدخل إلى طرابلس، لكن العاصمة ليست كل ليبيا، فالبلد فسيح، وهذه الحكومة قامت على محاصصة فكل مسؤول يضع أتباعه في وظائف هامة. وبالرغم من أننا في القرن الحادي والعشرين لم نستطع أن نُرسي نظاما سياسيا يعتمد على معيار الكفاءة، لذلك ليست هناك مؤسسات. والنتيجة أن كل فرد يجتهد من ناحيته، والاجتهاد موجهٌ في غالب الأحيان إلى المصلحة الشخصية.
ومن الأمثلة على ذلك أن الدولة اشترت أخيرا مصحة في بنغازي من أحد رجال الأعمال، بينما هي تمتلك شبكة كبيرة من المستشفيات، وكان الأحرى بها أن تُرممها وتُجددها. من هنا نُدرك أن أكبر نجاح حققه معمر القذافي هو خلخلة القيم ومسح مفهوم الوطن واختزاله في شخصه. وعندما غاب الشخص لم يعد هناك وطن، فأنت لا تشعر لدى المسؤولين بالحرص على الحفاظ على ذاك الوطن. صحيح أن هناك مشاريع تُنجز لكن فتش دوما عن الفساد الذي يُحيل تلك المشاريع إلى المصالح الخاصة.

عدا الفساد ما هي مشاكل ليبيا الأخرى؟
• المشكل الثاني في ليبيا اليوم إلى جانب الفساد الإداري وضعف الحوكمة، هو ارتفاع منسوب الكراهية بين أبناء البلد الواحد، فهي منتشرة في برامج القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف وأيضا في مواقع التواصل الاجتماعي. ونلاحظ أن تلك المواقع لعبت دورا كبيرا في نشر «ثقافة الكراهية» إذا ما اعتبرناها ثقافة، ففي مجتمعنا لم يكن مثل هذه الانحرافات موجودا. كانت منتشرة في المجتمعات الغربية بين السود والبيض على سبيل المثال، وبين الوافدين والسكان الأصليين. هذا لا يعني أن القبائل الليبية ليست بينها خلافات ولكنها ليست بهذا الحجم، ربما لأنها كانت تدور حول مسائل بسيطة. وخلال تلك الخلافات يتدخل رؤساء القبائل بالصلح. لكن عندما يصل شخص إلى السلطة يُصبح أهم من شيخ القبيلة في نظر قبيلته، لأنه هو من يستطيع توزيع العطاءات على أعيان القبيلة.

من الذي أوصل ليبيا إلى هذا المأزق؟
• الليبيون أنفسهم…

○ هل تقصد النخب؟
• لا ليست في ليبيا نُخبٌ بالمعنى الدقيق، لأن نظام معمر القذافي لم يُنتج نُخبا سياسية، وفكك الدولة ودمر المجتمع. والذين تولوا الأمور بعد 2011 هم المتخرجون من المدرسة نفسها طيلة أكثر من أربعة عقود. ومن يحكم اليوم هي الميليشيات. حتى النظام التعليمي تم إفراغه وتدميره. ففي ظل الملكية كان المتفوقون يُبتعثون إلى الخارج، للدراسة في أكبر الجامعات العالمية، وخاصة إلى الجامعات الأمريكية والبريطانية، ويُشترط فيهم أن يكونوا من الصف الأول حتى يُوافق على ابتعاثهم.
لذلك عند الاستقلال (1951) كان هناك حكام يؤمنون بمشروع اسمه الوطن، لكن لم يسمح النظام السابق لهذه الفئة بأن تشاركه في الحكم. والذين استولوا على السلطة بعد الانقلاب العسكري في 1969 كانوا ضباطا صغارا لم يُؤتوا من العلم إلا قليلا، فقد تعلموا في مدرسة محلية لمدة سنتين فقط بعد الثانوية، ومع ذلك اعتبروا أنفسهم الصفوة. واعتبر القذافي نفسه مفكرا ومُنظرا ومعلما، وأزاح المثقفين الحقيقيين، في مقابل إبراز عناصر اللجان الثورية. ولما أرسلت عناصر من تلك اللجان للدراسة في الخارج لم يستطيعوا مسايرة المستوى الأكاديمي فراحوا يدرسون في جامعات المعسكر الشرقي وكان مستواهم ضعيفا. لهذا عندما يُعلق البعض كل شيء على مشجب التدخل الخارجي أقول صحيحٌ هناك تدخل لكن الليبيين هم المسؤولون عما يحدث لبلدهم.

في كتابك «صراع الخيمة والقصر: رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي» ركزت على إبراز تأثير الحكم الاستبدادي في خلخلة المجتمع وضرب قيمه، كيف وصلت إلى هذه الاستنتاجات؟
• هذا الكتاب يتطرق إلى مسيرة تحديث المجتمع الليبي، وهي مسيرة أدعي أنها بدأت على نطاق ضيق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واقتُطعت منها حقبة معينة، وهي الحقبة التي بدأت بالانقلاب العسكري في اليوم الأول من أيلول/سبتمبر 1969 والذي أطلق عليه من قاموا به اسم «ثورة الفاتح». وقد نفذ الانقلاب حفنة من صغار ضباط الجيش بقيادة ملازم ثان اسمه معمر محمد عبد السلام أبو منيار. تربع معمر على المسرح السياسي الليبي، وكان اللاعب الرئيس في جميع الأحداث التي مر بها هذا المجتمع.

هناك كتب كثيرة صدرت حول القذافي بعد وفاته، ما الجديد في كتابك؟
• هذا الكتاب يختلف عن الكتب التي صدرت حتى الآن حول القذافي، لأنه كتاب في علم الاجتماع، وبالتالي فهو يبين كيف نظرتُ كمتخصص في علم الاجتماع إلى مسيرة مجتمع خضع لحكم دكتاتور طيلة حقبة طويلة. وطبعا التاريخ يعج بالمستبدين، ولن ينتهوا، لكن الحقبة التاريخية التي حكم فيها القذافي والظروف التي صاحبتها، وخصوصا المرتبطة بثروة النفط، ساعدت على أن يكون تأثيره على مجرى الأحداث في ليبيا قويا ومن نوع خاص. فعندما يتوافر المال وتغيب القوانين ويقرر حاكم متعجرف أن له هو وحده الحق في استخدام المال العام كيفما شاء، تحدُثُ أشياء كثيرة، وأهمها القدرة على شراء كم هائل من الذمم، لاستخدامها لصالح الحاكم وليس المجتمع.

واليوم كيف يمكن إدخال إصلاحات جذرية على الاقتصاد للحد من التبذير ومن تبديد المال العام؟
• أحد مشاكل ليبيا الكبرى أن اقتصادها ريعي، والمُتسبب في ذلك هو معمر القذافي الذي ألغى القطاع الخاص بالكامل وحول الجميع إلى موظفين لدى الدولة، وصارت الدولة أكبر مُشغل، بل وباتت تُشغل حتى من ليس لديهم عملٌ محدد. اكتشفنا لاحقا أن هناك من يتقاضى خمسة رواتب في الشهر، وهناك أطفال موظفون ويتقاضون رواتب، وموتى تُخصص لهم رواتب أيضا.

○ ألم يتغير الوضع بعد 2011؟
• تطرقتُ لهذه الظواهر في كتاباتي بناء على ملفات، وأملك ملفات أخرى، لكني لا أستطيع نشرها الآن خوفا على سلامتي. ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن الفساد بدأ ينتشر في الفترة الأخيرة من حكم القذافي، وقد تضاعف اليوم عشر مرات عما كان عليه في ظل النظام السابق. ولهذا السبب تُصنف ليبيا في أسفل سلم النماء وجودة الحياة في العالم، وفي مقدم تصنيفات الدول الفاشلة، لأنها فعلا دولة فاشلة.

تتخاصم حاليا حكومتان على حكم البلاد، ألا ترى أن الأزمة السياسية في ليبيا هي بالأساس أزمة شرعية، لأن الجميع يفتقر إليها؟
• هناك دوما مبررات شرعية لأية حكومة، لكننا لا نملك أية قطعة من الشرع لأننا نستمد شرعيتنا من الخارج ونبحث عن اعتراف الأمم المتحدة بنا. ولو سلم القذافي الأب الحكم لابنه بطريقة سلسة لاحتاج الأخير أيضا لتلك الشرعية الخارجية.

○ ماذا تعرف عن سيف الإسلام القذافي؟
• هو مختلف عن والده تعليما وثقافة. لكن الأب لم يكن يسمح لأحد بأن يكون مُتميزا حتى لو كان نجله. لذلك فتح أمامه الأبواب للالتحاق بالجامعة، لكن لما أصبحت له شعبية بين الشباب أزاحه بطريقة مُهينة. وهذا هو الأسلوب الذي يتعاطى به مع أبنائه، فهم يُنادونه سيدي وليس بابا كباقي الأطفال.

○ كيف سلمه إذا مشروع «ليبيا الغد» وائتمنه على الحوار مع المتشددين الدينيين في السجون إذا كان لا يثق فيه كما ذكرت؟
• هذه قصة أخرى فقد أقام معهم علاقة مهدت للإفراج عنهم، لكن لما قرر القذافي الأب إنهاء العملية انتهت بسرعة. وأعتقد أن سيف ظن في فترة من الفترات أنه سيكون الوريث، ومن أجل ذلك يجب أن يكون مقبولا من الغرب، والغرب كان قابلا أيضا بهذا البديل.
○ هل تعرفت إلى المجموعة التي كانت تُدير الدولة مع القذافي؟
• بلى، عرفتهم مُذ كانوا في الثانوية، ومنهم القذافي وعبد السلام جلود، ولم تنشأ بيني وبينهم صداقة لأنهم كانوا ينتمون للمجموعة التي صنفتنا في خانة «الرجعيين». وكان معروفا أني مع بعض أصدقائي نحمل رأيا مخالفا، وأجرينا مناقشات مع القذافي ومع الآخرين ولم نتفق. بعد ذلك انضم بعضنا إلى النظام وصاروا وزراء، أما أنا والآخرون فبقينا خارج الحكم، لأننا لم نكن نحمل تطلعات أخرى.

○ هل تعرضت لمضايقات لكونك حافظت على استقلالك؟
• في إحدى المناسبات كنت ألقي محاضرة في «مركز الجهاد الليبي» فاستفزني أحدهم وصاح «العظمة… العظمة» وكان يقصد الجماهيرية العظمى، فأجبتُهُ بأنني لم أر هذه العظمة إلا في ثلاثة أشياء هي الفوضى وكثرة الكلام والكناسة. وبعد تلك الجلسة خاطبني بالهاتف وزير الداخلة محمد المصراتي، مستفسرا، وكان طالبا في القانون لما كنت رئيسا للجامعة. لكن عموما لم يظلمني أحد، وبطبعي لم يكن لدي طموح أن أصبح وزيرا أو مسؤولا في الدولة، إذ رفضت المناصب مع عدد من زملائي، ولم تُقطع معاشاتنا بل بقينا محترمين. كان هناك أفراد مثل حالتي لديهم هامش صغير يلعبون فيه، بشرط ألا ينضموا إلى مجموعات، فالقذافي كان يخشى المجموعات، مثل جماعات التشدد الديني، الذين كان يخاف منهم كثيرا وقد أدخلهم السجون، وكذلك قليل من جماعة اليسار الذين سجنهم أيضا، فقد كان هناك ظلمٌ في الحبس وقمع شديد.

○ في المجال الأكاديمي كنت من مؤسسي الجمعية العربية للعلوم الاجتماعية في 1985 التي ترأسها الباحث الراحل عبد الباسط عبد المعطي (1943-2010) فماذا أنجزت الجمعية على صعيد مُراكمة الخبرات البحثية؟
• أنا توليتُ رئاستها بعد المرحوم عبد الباسط، وبقيتُ على رأسها عشر سنوات، قبل أن يتسلمها مني الدكتور خلدون النقيب. وبصراحة لم يكن للجمعية دورٌ في تطوير البحث في العلوم الاجتماعية، بقدر ما كان لها دور في التقريب بين علماء الاجتماع العرب والتعريف بأعمالهم، بالإضافة لدورها الهام في تأطير الطلاب الجدد لدى إعداد أطروحاتهم. ومن تقاليدنا في الجمعية أن نلتقي سنويا في إطار أطلقنا عليه اسم «لقاء الأجيال» وكان يجمع طلابا وطالبات مع أساتذة من مختلف البلاد العربية، لكي يُقدموا مشاريعهم البحثية ويستمعوا إلى مناقشات الأساتذة لمضامينها. وساهم هذا الإطار في تقريب الشقة خاصة بين الجزائريين والتونسيين والليبيين والمغاربة، فأصبحنا أصدقاء، لكننا لم ننجح كثيرا في جلب زملائنا المشارقة.

تعليقات