رشيد خشـــانة –  رئيس المفوضية العليا للانتخابات حذر من أن تأخير استلام التشريعات الانتخابية بعد تموز/يوليو المقبل يعني أنه لا يمكن إجراء الانتخابات في 2022.

انتهت الاجتماعات التشاورية الثلاثة في القاهرة، من دون تحقيق اختراق نوعي في المناقشات الجارية منذ أشهر في شأن الإطار الدستوري لنقل البلاد إلى انتخابات حرة، يرضى الجميع بمخرجاتها. ولجأت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز إلى محاولة فتح طريق موازية بدعوة كل من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري إلى اجتماع في القاهرة، بُغية تذليل بعض الصعوبات، التي عرقلت تقدم المشاورات في الاجتماعات الثلاثة الأخيرة. لكن الواضح أن مثل هذا الاجتماع، أسوة بسابقيه، لن يُسفر عن جديد في حل الأزمة، لأنهما ليسا الرجلين اللذين يمسكان بالسلك الكهربائي، ولذلك وُصفت اجتماعاتهما بأنها «تشاورية». وأفيد أن المناقشات فيها تمحورت حول التعاطي مع المواد الخلافية في مشروع الدستور، وخاصة منها شروط الترشح لرئاسة الدولة، بالإضافة إلى منع العسكريين من الترشح لأي موقع سياسي.
ومع ابتعاد أمريكا (مؤقتا؟) عن أزمات المنطقة، بحكم انشغالها بمضاعفات الحرب الأوكرانية، دخلت إيطاليا على خط الأزمة الليبية، لمحاولة التقريب بين الفرقاء المتصارعين. وكانت روما لا تُخفي تأييدها لأحد الشقين المتصارعين، إذ ساعد الإيطاليون مدينة مصراتة (شمال الوسط) التي قادت حرب إخراج الجماعات الإرهابية من مدينة سرت العام 2016 وفي مقدمها تنظيم «داعش». وأرسلت روما مستشفى ميدانيا مجهزا إلى مصراتة، إلى جانب قوة عسكرية لتأمين المستشفى، لا يقل عدد أفرادها عن 200 جندي، في إطار عملية «أبقراط». ولوحظ أن قائد العمليات المشتركة لأركان الدفاع الإيطالية الجنرال فرانشيسكو باولو فيليولو، أدى زيارة الخميس إلى مصراتة، للاطلاع على عمل فرقة أبقراط الطبية.
ويرى الإيطاليون، الذين خاضوا منافسة شرسة مع فرنسا على النفوذ في ليبيا، أن التسوية في هذا البلد ينبغي أن تنهض على أساس توافق سياسي واسع يضمن للبلاد حكومة يمكن أن تقود الشعب إلى التصويت في الانتخابات. وكانت أمريكا انسحبت مؤقتا من ليبيا بعد مقتل سفيرها كريس ستيفنس، وثلاثة أمريكيين آخرين، عام 2012 وصارت تعتمد على إيطاليا، التي اعتبرتها الأقرب إلى مواقفها في الملف الليبي. وربما شكلت تلك الوكالة أحد مصادر الانزعاج الفرنسي من الدور الإيطالي، إذ تعثرت عدة اجتماعات لحل الأزمة في ليبيا، جراء المناكفات العلنية بين باريس وروما. وفي مواجهة الأصوات التي ترفض إجراء «المصالحة الوطنية» في ليبيا، حضت سيريني على تشكيل «حكومة مستقرة وشرعية بالكامل» ما يمكن اعتباره استنقاصا من حكومة فتحي باشاغا المنبثقة من مجلس النواب.
ويمتد السباق الفرنسي الإيطالي إلى المجال الاقتصادي من خلال المنافسة القوية بين مجموعة «إيني» الإيطالية ومجموعة «توتال» الفرنسية، اللتين تستأثران بتشغيل عدد كبير من الحقول والموانئ النفطية في ليبيا. وانطلق الخميس أضخم مشروع لإنتاج الطاقة الشمسية تنفذه «إيني» في منطقة السدادة، بقدرة إنتاجية تصل إلى 500 ميغاويت. من هنا وجد خصوم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة أن الخاصرة الرخوة للحكومة ما زالت هي منابع النفط، ولذلك تعددت في الفترة الأخيرة عمليات غلق الحقول النفطية لإرباك الحكومة وتعجيزها بتجفيف مُحرك الاقتصاد، الذي يُؤمن أكثر من 98 في المئة من الايرادات العامة. وشكلت تصريحات وزير الاقتصاد في حكومة الوحدة محمد عون صدمة لكثير من الليبيين الذين سمعوا من الوزير أن منتوج بلدهم من النفط انخفض بنحو 1.1 مليون برميل في اليوم، فبعدما كان متوسطه يبلغ 1.2 مليون برميل العام الماضي، باتت ليبيا تضخ حوالي 100 ألف برميل يوميا فقط. أكثر من ذلك كشف عون، في تصريحات لوكالة «بلومبرغ» الأمريكية، أن كل أنشطة النفط والغاز تقريبا في المنطقة الشرقية متوقفة. وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن عمليات الإغلاق المستمرة تبدو ظاهريًا من عمل محتجين محليين يطالبون الدبيبة بتسليم السلطة، بناء على طلب قوات القيادة العامة (تابعة للواء خليفة حفتر). لكنهم ينفذون في الواقع خطة للسيطرة على العاصمة طرابلس إن سلما أم حربا.
في السياق حذر خبراء اقتصاديون من خطر نشوب صراع أوسع نطاقا، قد يُعيد البلد سنوات إلى الوراء. ورأى كبير الاقتصاديين في «أكسفورد إيكونوميكس أفريكا» فرانسوا كونرادي أنه حتى لو لم يكن هناك تصعيد للصراع، فإن صناعة النفط ستظل فريسة لتدخل رجال أقوياء. وأشار التقرير إلى أن حصار المنشآت النفطية يعود إلى التنافس السياسي، إذ يسعى رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا للسيطرة على السلطة، في وقت رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبدالحميد الدبيبة التسليم، مُعتبرا أن المنشآت النفطية باتت منذ العام 2011 أوراقا للمساومات السياسية. ويمكن القول إن العلاقات الإيطالية الفرنسية تحسنت في الفترة الأخيرة، لكن أحد الاختلافات الكبرى بين الدبلوماسيتين يتمثل بتمسُك روما بالأمم المتحدة إطارا ضامنا لأي اتفاق سياسي في ليبيا. ولذلك أسمع وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو نظيرته الليبية نجلاء المنقوش في روما قبل أيام أن إيطاليا تؤكد الحاجة إلى تسوية على أساس توافق سياسي واسع، يضمن للبلاد حكومة يمكن أن تقود الشعب الليبي إلى التصويت. ويرى الإيطاليون أن هذا الحل يقوم على إجراء مصالحة وطنية وتوحيد المؤسسات وإيجاد سلطة تنفيذية ومستقرة ومُكتملة الشرعية. وعلى العكس من ذلك يلعب الفرنسيون في مسارات موازية تلتف على الأمم المتحدة ومؤسساتها، بدعوة الزعماء الليبيين إلى باريس لعقد مصالحات سرعان ما يتبخر مدادها. ومن رحم هذا الخلاف، الذي نزل أحيانا إلى مستوى تبادل الشتائم، برزت المبادرة الألمانية في مؤتمري برلين 1 وبرلين2 التي وضعت روزنامة دقيقة للحل السياسي. غير أن استفحال الخلافات بين الليبيين، خصوصا بعد تشكيل الحكومة الموازية، برئاسة فتحي باشاغا، الذي لا تربطه وشائج متينة بروما،عطل تنفيذ الروزنامة. والأرجح أن أحد عناصر التقارب بين روما وباريس في الملف الليبي، يتمثل بالتمدد الروسي في غرب أفريقيا ومنطقة الصحراء. ويُردد دبلوماسيون إيطاليون أن الوجود الروسي في ليبيا وسوريا والساحل الأفريقي هو أحد مصادر عدم استقرار الأوضاع في ليبيا والاقليم بشكل عام.

صدى الحرب الأوكرانية

وزاد تنامي المخاطر الأمنية من تعقيد الوضع الاقتصادي الذي تأثر إلى درجة كبيرة من ارتفاع أسعار القمح، بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، إلى جانب تأثير الإغلاق الذي فرض منذ نيسان/ابريل الماضي على عدد من مصانع النفط، مثلما أسلفنا، ما جعلها غير قادرة على الاستفادة من الارتفاع العالمي لأسعار النفط، بحسب ما قال تقرير للموقع الإعلامي «ألمونيتور» المتابع للتطورات بمنطقة الشرق الأوسط. واستنادا إلى تقرير حديث للبنك الدولي، أدت ارتدادات الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي في ليبيا، بعدما ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وخاصة أسعار الدقيق، بشكل ملحوظ. وتستورد ليبيا أكثر من نصف استهلاكها من الحبوب من أوكرانيا وروسيا. وفي تقدير سياسيين ليبيين لا يمكن علاج هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية إلا بإنهاء المراحل الانتقالية والوصول إلى الاستقرار. وشدد المجلس الرئاسي (مقره في العاصمة طرابلس) على أن الحل يكمن في إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وفق قاعدة دستورية، من أجل تحقيق السلام في البلد. لكن لسائل أن يسأل: هل أن العائق في طريق إجراء الانتخابات الموعودة فني أم سياسي؟
أجاب رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عماد السائح على هذا السؤال المركزي، أثناء الإحاطة التي قدمها للنائبين بالمجلس الرئاسي موسى الكوني وعبد الله اللافي، والتي شرح فيها عمل المفوضية، والتحديات التي واجهتها طيلة الأشهر الماضية، أثناء الإعداد للانتخابات. ويؤيد المجلس الرئاسي التعجيل بإنهاء المراحل الانتقالية، التي استمرت أكثر من اللزوم، مع دعمه للجهود التي بذلتها المفوضية في هذا الإطار، والوصول بالبلاد إلى مرحلة الاستقرار، تحقيقًا لرغبة أكثر من مليونين وثمنمئة ألف ناخب سجلوا أسماءهم في سجلات المفوضية. واستطرادا فإن العائق ليس فنيا، بالنظر إلى أن المفوضية جاهزة وأن المجلس الرئاسي جدد ثقته بها، والتزامه بإجراء الانتخابات وفق قاعدة دستورية يتفق عليها الجميع. لكن رئيس المفوضية العليا للانتخابات حذر، في اجتماعه مع عضوي الرئاسي، من أن تأخير استلام التشريعات الانتخابية بعد تموز/يوليو المقبل يعني أنه لا يمكن إجراء الانتخابات في 2022. وربط السايح في مقابلة صحافية بين الانتهاء من الاتفاق على المرجعية الدستورية، في الآجال المحددة وبين إجراء الاقتراع العام، مؤكدا أن المفوضية ستكون قادرة على تحديد موعد يوم الاقتراع في كانون الأول/ديسمبر، شريطة استلامها التشريعات الانتخابية التي تقرها القاعدة الدستورية، في الشهر المقبل.
في هذه الأثناء تم اجتماعٌ مهم جدا ذو طابع عسكري، في القاهرة، في إطار لجنة 5+5 التي تضم عسكريين من الجانبين، بمشاركة كل من رئيس الأركان العامة الفريق أول ركن محمد الحداد، ورئيس الأركان العامة في المنطقة الشرقية الفريق عبد الرازق الناظوري. وأتى الاجتماع في سياق اختبار مهم تمثل في محاولتي رئيس الحكومة المعينة من مجلس النواب فتحي باشاغا اقتحام طرابلس، ثم تخليه عن ذلك المشروع، حرصا على عدم سفك الدم الليبي، على ما قال. وإذا ما تصرف العسكريون بهذه الذهنية اليوم، فمعنى ذلك أن هناك قرارا سياسيا في الاتجاه نفسه، خاصة عندما يتعرض العسكريون إلى مسائل سياسية من قبيل ضرورة عودة النازحين إلى مناطقهم ومدنهم. أكثر من ذلك، أكد الناظوري في اجتماع القاهرة على ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية وإخراج المرتزقة من ليبيا ودمج أعضاء المجموعات المسلحة، بحسب رغبتهم، في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمدنية، «من أجل قيام دولة مدنية لا يُقصى فيها أحد». ولوحظ أن الطرفين اتفقا على عدم تسييس المؤسسة العسكرية ودعم الجهود لقيام الدولة المدنية، وبناء جيش قوي بعيدا عن كل التجاذبات السياسية. فهل تكون هذه المؤشرات أمارة على اقتراب الحل السياسي، بعدما أخفقت الحلول الأخرى؟

تعليقات