رشيد خشـــانة – في المشهد المُتسم بانقلاب المواقف السياسية واستمراء لعبة التحالفات، يعاني المواطنون الليبيون من جبروت العصابات المسلحة، التي تسيطر على المفترقات وتُقيم نقاط تفتيش في مداخل الأحياء.

للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات اخترق الصراع الأهلي، الدائر بين الفرقاء الليبيين، «مؤسسة النفط الوطنية» وهي الركيزة الأساسية لاقتصاد البلد. وبعدما أعلن رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة أنه أطاح برجل النفط القوي مصطفى صنع الله، اندلع عراك بين الموظفين الرافضين قرار العزل والطاقم الجديد، محاولين الحيلولة دون مباشرة الرئيس الجديد للمؤسسة فرحان بن قدارة، مهامه من مقرها الرئيس في طرابلس.
هذه الخطوة أقدم عليها الدبيبة بعد ممارسة ضغوط على صنع الله طيلة أشهر، وهي تُعتبر ثمرة لتوافق بين أعداء الأمس أي بينه وبين اللواء المتقاعد خليفة حفتر، للتحكم بإيرادات النفط والغاز. وضغط الدبيبة في البداية على غريمه صنع الله، بواسطة وزير النفط والطاقة محمد عون، قبل أن ينتقل إلى العزل وتغيير تشكيلة مجلس إدارة المؤسسة، لكي يصبح طوع بنانه.
وكان حفتر أمر في أواسط نيسان/ابريل الماضي، بغلق بعض الموانئ والحقول النفطية لإجبار الدبيبة على الاستقالة، لأن الأخير كان يرفض أن يُحول للمنطقة الشرقية مستحقاتها من الموازنة. ومنذ ذلك الحين انخفض إنتاج النفط الليبي إلى أقل من مليون برميل يوميًا. ووفقًا للتقديرات الأخيرة، تخسر ليبيا جراء ذلك 60 مليون دولار من العائدات النفطية يوميًا. وأدت عمليات إغلاق المنشآت الأخيرة إلى خفض الإنتاج الليبي بنحو 600 ألف برميل يوميا منذ بداية عام 2022. وعزا الباحث غير المقيم في المجلس الأطلسي عماد الدين بادي، إغلاق منشآت النفط إلى الرغبة بتلبية أجندة فصيل ليبي محدد على المدى القصير، من أجل الإطاحة بحكومة الدبيبة. لكن اللافت، بالمقابل، هو العواصم التي باشر رئيس المؤسسة المُعين فرحان بن غيدارة اتصالاته الأولى معها، وهي الحكومة الفرنسية، فيما أجرى حلفاؤه، أي حكومة الدبيبة اتصالا سريعا مع أطراف أمريكية، لشرح وجهة نظرها مما جرى، فضلا عن الإمارات التي رحبت بالتسمية.
وكان صنع الله أعلن قبل ساعات من تنحيته عن رفع حالة القوة القاهرة عن ميناءي البريقة والزويتينة، مشيرا إلى أن الناقلة «إيبلا» في طريقها لتعبئة شحنة من المكثفات، بعد قبولها فنياً من شركة سرت. وأوضح أنه تم الاتفاق بعد مفاوضات طويلة ومستمرة إبان فترة عطلة عيد الأضحى على دخول الناقلة فور وصولها ومباشرة شحن المكثفات من ميناءي البريقة والزويتينة «في خطوة تتبعها خطوات» حسب قوله. وذكر صنع الله أنه تم التواصل مع حرس المنشآت النفطية ورئيس لجنة الطاقة بمجلس النواب، مؤكدا أن الجميع اقتنعوا بأهمية شحن المكثفات لحل أزمة نقص الغاز في المنطقة الشرقية، وضمان تغذية محطتي الزويتينة وشمال بنغازي، فضلا عن محطة السرير، فور مباشرة الإنتاج في حقول شركة الواحة، وفق قوله.

ميني انقلاب

وعقب انتهاء صنع الله من إلقاء كلمته، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط، عن وجود عدد لم تُحدده من السيارات المسلحة، في نطاق مبنى المؤسسة الرئيسي بالعاصمة طرابلس. وعلقت المؤسسة، في بيان نشرته عبر صفحتها على «فيسبوك» قائلة إن العلامات تشير إلى تبعية السيارات إلى الغرفة الأمنية المشتركة مصراتة، وهي قريبة من الدبيبة، ما يوحي بأن التسليم والاستلام تما في أجواء انقلاب مصغر. وحمَّلت المؤسسة الدبيبة وآمر القوة المتواجدة في نطاق مبنى المؤسسة عمر بوغدادة، مسؤولية التعرض بأذى لأي موظف في القطاع. أكثر من ذلك حذر صنع الله، المُقيم في طرابلس، من أن المسؤولين التنفيذيين والشركات التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط، ما زالوا يعترفون به رئيسا، وأنه من دون وجود ضغط دولي، «قد تؤدي الأزمة إلى ظهور مؤسسة نفط وطنية موازية، مثلما حدث ذلك عندما حكمت إدارتان متنافستان في الشرق والغرب» بحسب التصريحات الصحافية الأخيرة للرئيس المخلوع صنع الله.
ولوحظ أن صنع الله أخرج الموضوع من إطاره الليبي الليبي مُوجها إصبع الاتهام إلى الإمارات قائلا «لن نسمح بمحاولات إرضاء الإمارات على حساب الشعب الليبي» مؤكدا أن الدبيبة حدثه أكثر من مرة بأن الإمارات «حليفة له». كما شكك صنع الله وآخرون في أهلية الدبيبة اتخاذ قرارات كبرى، مثل تغيير قيادة مؤسسة النفط، بوصفه رئيس حكومة تصريف أعمال فقط.

مجموعة الدول السبع الصناعية

من هذه الزاوية تُفهم دعوة مجموعة الدول السبع الصناعية في قمتها الأخيرة، إلى «الاستئناف الكامل لإنتاج النفط في ليبيا» مع مطالبة جميع الأطراف بـ«الامتناع عن استخدامه كأداة للمواجهة السياسية». وأكدت المجموعة في بيانها الختامي إثر اجتماعاتها في جنوب ألمانيا، «التزامها القوي» بالعملية السياسية، التي «تُيسرها الأمم المتحدة ويملكها الليبيون» على ما جاء في البيان، الذي طغت عليه كالعادة العبارات المُنمقة الجوفاء، من قبيل أن السبعة يدعمون سيادة ليبيا واستقلالها وسلامتها الإقليمية ووحدتها الوطنية. لكن البيان ذكر بالاسم مجموعة فاغنر الروسية، في معرض مطالبته بتنفيذ اتفاق 23 تشرين الأول/اكتوبر 2020 الذي ينص على وقف إطلاق النار وسحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.

قطار ثقيل الخطى

وجاء صدى الموقف الدولي المُطالب بحل سياسي سريع، من المجلس الرئاسي، الذي حاول رئيسُه محمد المنفي في الماضي، التقريب بين الخصوم، بلا جدوى، ثم عاد نائبه عبد الله اللافي ليجتمع مؤخرا مع أعضاء من الهيئة التأسيسية أو «لجنة الستين» لمعاودة مناقشة البنود الخلافية في مشروع الدستور، الذي لن تكون هناك انتخابات من دون الاتفاق عليه. وتقول مصادر قريبة من «الرئاسي» إنه يسعى إلى بلورة مبادرة وطنية شاملة لدفع العملية السياسية قُدُما. إلا أن قطار المجلس الرئاسي ثقيلُ الحركة، وئيدُ الخطى، في وقت تحتاج فيه ليبيا إلى مسار تفاوضي سريع.
في أثناء تلك المراوحة ما فتئت أطراف دولية وقوى إقليمية تُعزز من حضورها المُستفز في أرجاء ليبيا، فعناصر مجموعة «فاغنر» الأمنية الروسية، التي كانت تتستر على وجودها في ليبيا، ويتستر عليها حلفاؤها من أنصار اللواء حفتر، وسعت من وجودها العسكري. وأفادت القناة التلفزيونية «ليبيا الأحرار» أن الطيران الحربي التابع لعناصر من «فاغنر» قام بمناورات بالذخيرة الحية، في الفترة الأخيرة في منطقة الجفرة، بشكل غير مسبوق. وفي مسار مواز أفيد أن تركيا، غريمة روسيا في ليبيا، تتحرك سياسيا هذه الأيام من أجل استضافة اجتماع موسع الخميس المقبل، بين رئيسي مجلسي النواب والدولة عقيلة صالح وخالد المشري، وممثلين عن الدول الرئيسة المنخرطة في أزمة ليبيا.
ويسعى الأتراك للوصول إلى حل نهائي في ملف السلطة التنفيذية، على نحو يضع حدا للصراع المُدمر بين رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة ورئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا. والأرجح أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يسعى، من خلال هذا الاجتماع، إلى استعادة المبادرة في مسار الأزمة الليبية.
أما أمريكا فيمكن اعتبار تصريحات موفدها الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند مُعبرا عن موقفها من الأزمة الراهنة، فهي تعتبر أن مؤسسة النفط «حيوية» من أجل «استقرار ليبيا وازدهارها». ورأى نورلاند أنها «حافظت على استقلالها السياسي وكفاءتها الفنية في عهد صنع الله» وهذه شهادة مهمة تُعزز موقعه في الصراع الدائر بينه وبين خصومه.
إذا صح ما قاله صنع الله فهو تأكيدً بأن الصراع في ليبيا بات خاضعا لإملاءات قوى إقليمية، من بينها الإمارات ومصر. صحيح أن هذا الأمر ليس جديدا، لكن كانت الأمور تتم في كنف التكتم الشديد. أما اليوم فصارت التحالفات والائتلافات مكشوفة أمام الجميع. وفي السياق نلحظ عقد تفاهمات جديدة لم يكن من الممكن تصورها بالأمس القريب، فخالد المشري يجتمع في القاهرة مع غريمه عقيلة صالح الخميس، حتى لو لم يخرج الاجتماع بنتائج ملموسة، والدبيبة يُنسق مع كل من حفتر والإمارات، بحسب صحيفة «فاينانشيال تايمز» ولم يكن واردا من قبل أن يتفاهم حاكم طرابلس مع حاكم الشرق، وإنما هما يسيران على خطين متوازيين لا يلتقيان.
مع ذلك يعتقد بعض المحللين الدوليين أن ليبيا قادرة على لعب دور حاسم في قطاعي النفط والغاز، وهي التي كانت تنتج 1.5 مليون برميل في اليوم قبل اندلاع الحرب الأهلية. ويرى كبير الباحثين في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» بن فيشمان أن ليبيا بإمكانها إنجاح أو إفشال دبلوماسية بايدن بالمنطقة. وأكد أن «زيادة الإنتاج السعودي لن تعني الكثير إذا ظل إنتاج النفط الليبي غير موثوق به» بحسب ما ورد في مقال لفيشمان نشره موقع «ناشونال إنترست» الأمريكي.

مسلحون.. مسلحون
في هذا المشهد القاتم، المُتسم بانقلاب المواقف السياسية واستمراء لعبة التحالفات، يعاني المواطنون الليبيون من جبروت العصابات المسلحة، التي تسيطر على المفترقات وتُقيم نقاط تفتيش في مداخل الأحياء، وهي بذلك تساهم في الانتشار غير المحدود للسلاح. فما ذنب سيدة كانت عابرة الطريق، مع ابنتها في منطقة القويعة، شرق العاصمة طرابلس، وإذ بهما تلقيان مصرعيهما في اشتباك عنيف اندلع ساعتها بين المسلحين؟
مرة أخرى، ما زال المواطن الليبي، الذي يصطلي هو وأسرته، بنار الحرارة الصيفية جراء انقطاعات الكهرباء المديدة، هو من يدفع ثمن الخلافات بين السياسيين وأمراء الجماعات المسلحة، من دون أن تستطيع الأمم المتحدة أن تحميه أو تخفف من معاناته ومعاناة أسرته، ولا يتجاسر «الأشقاء» على تركه وحاله، بالكف عن التسليح والتحريض وإيغار الصدور.

تعليقات