رشيد خشــانة – لم تأت الأرقام المعلنة رسميا عن نتائج استفتاء 25 تموز/يوليو الماضي في تونس، بمفاجآت كبرى، فالفصل 139 من الدستور الجديد لا يتضمن أي فرضية للرفض أو لكيفية التعاطي مع أي حالة خارج الموافقة. من هنا أتى توصيف غالبية المحللين لما جرى في تونس على أنه مبايعة للرئيس قيس سعيد (64 عاما) فغالبية التونسيين لم يقرأوا المشروع المعروض عليهم، قبل الذهاب إلى مراكز الاقتراع، وبالتالي فقد منحوا أصواتهم إلى قيس سعيد، لأنهم كانوا يرون فيه مرآة تعكس آمالهم، وخاصة في مكافحة الفساد. لكن اقتصار نسبة المشاركة على 30 في المئة من الناخبين المسجلين فقط، حسب الأرقام الرسمية، كسر تلك المرآة، بالرغم من تعبئة جميع وسائل الدولة الإعلامية والإدارية والأمنية، بشكل مُناف للقانون، من أجل “إنجاح الاستفتاء”. ولم تجد الهيئة العليا للانتخابات من الشجاعة ما يكفي لتقول لرئيس الدولة إنه ارتكب خطأ، فأنحت باللائمة على التلفزيون الرسمي الذي بث الكلمة، ما أفقدها نهائيا المصداقية والشفافية.
الأغرب من ذلك أن الرئيس سعيد، الذي كان يُفترض أن يكون قدوة في احترام القانون، خرق مقتضيات الصمت الانتخابي، بتوجيه خطاب إلى التونسيين، عبر التلفزيون العمومي يوم السبت، بعد ساعات من سريان الصمت الانتخابي، لتحريضهم على التصويت بنعم. واستطرادا انهارت الثقة في الهيئة العليا للانتخابات، التي جعلها طوع بنانه منذ أمر بعزل رئيسها السابق وإعادة تشكيل قيادتها على نحو أفقدها المصداقية والحياد.
كان هذا المسار الاحتوائي مبنيا على المرسوم 117 الذي فوض الرئيس بموجبه كل السلطات لنفسه، بما فيها وضع اليد على المجلس الأعلى للقضاء، الذي أصبح أعضاؤه موظفين مُعينين من الرئيس. مع ذلك لم يعد ممكنا له أن يسوس البلد مثلما كان يفعل قبل الاستفتاء وسط مشروعية متآكلة ومهتزة، فيما الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية تضع طوقا حديديا حول رقبة الحكومة، التي ليست لها القدرة على التفاوض خارج الحدود المرسومة من الرئيس. وعن تضعضُع المشروعية في ضوء النتائج الرسمية للاستفتاء، تقول خبيرة القانون الدستوري سلسبيل القليبي “الدستور نصٌ حيويٌ للدولة كما للمجتمع، وضآلة عدد المقترعين ستكون لها مضاعفات، إن على طول عمره (الدستور) أم على مدى تقبُله من الطبقة السياسية”.

400 ألف صوت ما مصدرها؟

تغيرت ملامح المشهد السياسي منذ الزمن الذي فاز فيه سعيد بالرئاسة بنسبة 72 في المئة في تشرين الأول/اكتوبر 2019 (2.7 مليون صوت) فقد تآكلت اليوم كتلة مؤيديه لتصل إلى النصف. وبدا من المُريب أن 400 ألف صوت أضيفت إلى معسكر الـ”نعم” بعد غلق مكاتب الاقتراع، في العاشرة مساء، بالإضافة لغياب المراقبين من عدة مكاتب في مناطق نائية. واتسمت أعمال الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ببُعدها عن الاستقلالية والحياد، ما جعل شركاء تونس الخارجيين، وأساسا الأمريكيون والأوروبيون، لا يترددون في التعبير عن قلقهم من تدني نسبة المشاركة والسياقات غير الطبيعية التي جرى فيها الاستفتاء. من ذلك أن وليم لورانس، المسؤول السابق في الخارجية الأمريكية، رجح أن واشنطن ستقرر المزيد من خفض مساعدتها العسكرية لتونس، بعدما كانت خفضتها إلى النصف في وقت سابق. وبات الأمريكيون يربطون تقديم المساعدة العسكرية والاقتصادية لتونس بمدى تقدم المسار الديمقراطي أو انتكاسه. ويُلقي هذا التلويح ببعض العقوبات ظلالا كثيفة على الموقف الأمريكي، الذي كان دوما الضامن لتونس لدى المؤسسات النقدية الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي، ما يسر لها الحصول على قروض كثيرة في الماضي وبسلاسة.
أما اليوم، وبعد الاستفتاء، فنلحظ في كلام وزير الخارجية أنتوني بلينكن، في بيانه يوم الجمعة الماضي، استخداما للعصا والجزرة، إذ أنه جمع بين التهديد المبطن والتلويح بحوافز إذا ما التزم سعيد بإعادة البلد إلى سكة الانتقال الديمقراطي. وفي السياق أكد السفير الأمريكي الجديد لدى تونس جوي هود، عند عرض برنامجه على لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، أنه سيسير على الخط نفسه، قائلا “سنفحصُ خطط المساعدات (لتونس) للتأكد من أنها مُطابقة لأهدافنا السياسية وقيمنا، مع المحافظة في الوقت نفسه على شراكتنا”. وزاد هود بشكل أوضح “سأستخدم كل وسائل التأثير الأمريكية من أجل الدعوة للعودة إلى حوكمة ديمقراطية، والتخفيف من آلام التونسيين، جراء الحرب المدمرة في أوكرانيا وسوء إدارة الاقتصاد (المحلي) والتقلبات السياسية”. أما وزيرة خارجية كندا التي زارت تونس قبل أيام، فحذرت من أن قمة المنظمة العالمية للفرنكفونية (54 دولة عضو) التي تستضيفها تونس في نهاية العام، ينبغي أن تُعقد في بلد يُجسد في أقواله وأفعاله مبادئ الإعلان التأسيسي للمنظمة، وهي الديمقراطية وحقوق الانسان، من أجل مسار انتقالي مُثمر.

تقسيم البلد إلى شعبين؟

وربما أخطر ما ستقود إليه نتائج الاستفتاء هو تعميق تقسيم البلد والشعب إلى موالين لسعيد في جانب، ومناوئين له ولمشروعه في الجانب الثاني. ومن القضايا التي كانت خلافية وحسمها دستور 2014 الذي شطبه سعيد، علاقةُ الدولة بالدين، إذ توافق الآباء المؤسسون في الدستور الأول للجمهورية (1959) إلى إيجاد صيغة واضحة وبسيطة، هذا نصها: “تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. وقد رأى التونسيون، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية ومشاربهم الفكرية، ملامح هويتهم في مرآة هذه التوطئة. ولذلك تم تثبيت التعريف نفسه في الفصل الأول من دستور 2014. أما دستور قيس سعيد فعاد بالتونسيين إلى مناخات الجدل السابق العقيم، عن الفرق بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وفتح مجددا أبواب النقاش الذي طُوي منذ سنوات عن اللائكية.
وأدت الصيغة التي استعاض بها سعيد عن تلك الفقرة في دستوره الجديد، إلى مزيد من التقسيم والاستقطاب، خاصة في تحديد علاقة الدولة بالدين، إذ جاء في دستور سعيد أن “تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، في ظل نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف”. ولأن الرئيس سعيد لا يعتمد على مستشارين وخبراء، ويستبعد الكفاءات التي لا تُواليه، بمن فيهم الخبيران الدستوريان صادق بلعيد وأمين محفوظ، ارتكب كثيرا من الأخطاء التي هزت الثقة في مشروعه، وبخاصة بعد سن المرسوم 117 الذي فوض الرئيس لنفسه بموجبه كل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، عن طريق المراسيم.
وكان سعيد كلف زميليه السابقين في كلية الحقوق بلعيد ومحفوظ بإعداد مسودة للدستور الجديد، ولما سلماه الوثيقة ألقى بها عرض الحائط، وسحب من جيب سترته مسودة بديلة أعدها بنفسه، واكتشف الناس أنها احتوت على 46 خطأ شكليا ومضمونيا، ما اضطره لتصحيحها. ورهانه الأساسي في مغامرة الهروب إلى الأمام هذه، هو الثقة بقدرته على فرض أمر واقع، مثلما يتصوره في مشروعه الموسوم بـ”البناء القاعدي” وإجبار الجميع على الخضوع له. لكن في ظلّ اتساع مساحة المعارضة للمسار والقطيعة الحاصلة بين النخب والرئيس، سيعمّق ذلك من الأزمة السياسية والاجتماعية، ويجعلهما مفتوحتين على كلّ أنواع الاحتمالات.

نحو انتخابات ديسمبر

والأرجح أن سعيد سيعمل في الفترة القريبة على وضع قانون انتخابي طبقا للدستور الجديد، وقد يُكلف لجنة من “الثقاة” بإعداده، ثم يُحرره بنفسه، بذريعة وجود استحقاقات مستعجلة. بهذا المعنى ستستأثر انتخابات 17 كانون الأول/ديسمبر باهتمام الرئيس، الذي باتت قاعدة حكمه فاقدة للشرعية، طالما أن الدستور الذي أقسم عليه وتعهد بالذود عنه لم يعد موجودا. من هنا سيتطرق الجدل في المرحلة المقبلة إلى ضرورة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، مثلما تطلب المعارضة، أو الاستغناء عنها. أما سعيد فينبني مشروعه على البقاء على سدة الرئاسة إلى ما بعد إجراء انتخابات الغرفتين الأولى والثانية، وصولا إلى تركيز نظام سياسي “جماهيري”. و”الجماهيري” مثلما كان يُعرف في عهد الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، يقوم على “التصعيد” وليس على الانتخاب الحر والشفاف، فسعيد يمقت الديمقراطية التمثيلية، ويُبشر بنظرية جديدة ذات بُعد عالمي، لا تعدو أن تكون قولبة جديدة لـ”النظرية العالمية الثالثة” التي ابتدعها القذافي.
غير أن مشاريع الرئيس لا تجد آذانا صاغية لدى النخب، الجديد منها والقديم، فتراها تنزل إلى الشارع احتجاجا ولا تُعير اهتماما لخطاباته. وكانت انتقادات مكونات المجتمع المدني النابض بالحركة، لا تقل راديكالية عن موقف أحزاب المعارضة، التي تجمعت في كتلتين كبيرتين، بالإضافة لاتحاد النقابات العمالية، الذي انكسرت جرة التفاهم معه مُذ شعر أن سعيد يريد تهميشه وقصقصة أجنحته. ويزداد هذا الأمر خطورة مع انطلاق مفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي، الذي اشترط أن تكون النقابات الكبرى مطلعة وموافقة على أي خطوات تخطوها الحكومة على طريق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. ويقول الخبير في العلوم السياسية لوك دوباروشي إن أكبر خطأ ارتكبه سعيد أنه بينما النار تلتهم جدران البيت، كان هو ينظر في الاتجاه الآخر. كان مهووسا بوضع دستور جديد على المقاس يمنح صلاحيات غير محدودة لرئيس الجمهورية، الذي يُسمي رئيس الحكومة ويعزله من دون الرجوع إلى البرلمان. وهو رئيس لا يُساءل ولا يُراقب طالما أنه يُجمع كل السلطات في قبضته. من هنا أتت التحذيرات، في الداخل والخارج، من نزول البلد درجات جهنم، وصولا إلى إرساء حكم استبدادي جديد، يعود بالبلد إلى أزمة شاملة، شبيهة بتلك التي قادت إلى تنحية زين العابدين بن علي 2011-1987.

تعليقات