رشيد خشانة – يُبدي قطاع واسع من الليبيين غضبهم من استمرار الفساد بعد إسقاط النظام السابق، مُطالبين بإجراء التحقيقات اللازمة لتحديد قيمة الأضرار ومحاسبة المُذنبين وتطبيق القانون على الجميع.

قد يكون من السهل تجاوز قضية الشرعية في ليبيا اليوم، بإجراء انتخابات عامة وشفافة بمعايير دولية. لكن العقبة الأساسية في طريق الانتقال إلى دولة المؤسسات ستظل قائمة من خلال الجماعات المسلحة، التي لا سلطان عليها سوى أمرائها. والمهم بالنسبة للدول الكبرى المتداخلة في الملف الليبي هو كيفية جمع 20 مليون قطعة سلاح وإبعاد السلاح الثقيل عن وسط المدن مسافة لا تقل عن ثلاثين كيلومترا. ويرتبط هذا السعيُ للاستقرار بالرغبة الأوروبية في زيادة الاعتماد على النفط والغاز الليبيين، كي لا تبقى رهينة لدى روسيا.
وبدا واضحا أن التقليل من الاعتماد على الغاز الروسي بات يشكل في الفترة الأخيرة، أولوية لدول الاتحاد. وهم يطرحون، تعويضا لشراء الغاز الروسي، فكرة تشكيل «المجموعة الأوروبية المتوسطية للطاقة» مثلما اقترح ذلك جان لوي غيغو مؤسس «معهد الدراسات الاقتصادية المستقبلية للعالم المتوسطي» ومقره في مدريد. ويرى غيغو أن الحرب الراهنة في أوكرانيا تقتضي إيجاد استراتيجيا سياسية واقتصادية تُحرر أوروبا من التبعية للغاز والنفط الروسيين، وتجعلها تلتفت إلى أفريقيا، التي تعاني من تفاوت كبير بين الزيادة السريعة في عدد السكان ونمو اقتصادي متواضع. وسيكون مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في أفريقيا «تيكاد» الذي تستضيفه تونس أواخر الأسبوع المقبل، فرصة لحض المجموعات الصناعية اليابانية، الباحثة عن أسواق جديدة، للاستثمار في القارة الأفريقية، لاسيما بعد بروز منتجين جددا للنفط والغاز.
غير أن اليابانيين لا يُخفون حساسيتهم لظواهر الفساد والرشوة وضعف الحوكمة، خاصة أن فضائح مالية تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، وتتعلق بنهب جزء من إيرادات النفط والغاز الليبيين. وكشف تقرير منظمة دولية غير حكومية، أساليب التحايل التي يلجأ إليها المستوردون في ليبيا للتغطية على النشاطات المالية المشبوهة عبر الاعتمادات المستندية، وكانت لندن مركزًا لهذه النشاطات. وأثير هذا الموضوع في لندن خلال مهاجمة رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان البريطاني توم توغهاتند رئيس مصرف إنكلترا، أندرو بيلي بعد لقائه الأخير مع محافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير متهمًا إياه (بيلي) بكونه ممولا للميليشيات، حسب تقرير نشرته جريدة «إكسبرس» البريطانية. وحسب توم توغهاتند ما زالت الأموال العامة تتدفق من ليبيا إلى بنوك لندن وإلى أيدي رجال الميليشيات. من جهة أخرى بات التقليل من الاعتماد على الغاز الروسي يشكل أولوية لدول الاتحاد، وبالتالي سيزيد هذا من الاهتمام بالملف الليبي ويدفع للبحث عن الحل السياسي المنشود، بالضغط على المترددين إن لزم الأمر.
فهناك العديد من التحويلات المشبوهة التي قام بها أركان النظام السابق من المسؤولين الحكوميين وأفراد أسرة معمر القذافي. ونقلت جريدة «اكسبرس» عن تقرير استقصائي حديث لمنظمة «غلوبال ويتنس» الدولية غير الحكومية، أن هناك استخداما واسعا لخطابات الاعتماد، بعدما تبين منحُ حوالي 9 مليارات دولار من العملات الأجنبية للشركات والسلطات العامة سنويًا، حسب ما أوردت «بوابة الوسط» الليبية. وكشف النائب العام الصديق الصور، تفاصيل التحقيقات في عملية الاختلاس والفساد التي شابت العقد المبرم بين «المؤسسة الليبية للاستثمار» وشركة «بلادين الدولية لإدارة الاستثمار» بمبلغ 700 مليون دولار.
ونقلت جريدة «اكسبرس» الانتقادات التي وجهها النائب توم توغهاتند إلى كل من محافظ بنك انكلترا وحاكم بنك ليبيا معتبرا أن الأموال العامة تتدفق من ليبيا إلى بنوك لندن، وإلى أيدي رجال الميليشيات على حد قوله. وكشف التقرير الاستقصائي المذكور أن لندن هي موطن عشرات البنوك الليبية، وقد لعبت دورا رئيسا في العملية، إذ انطلقت «غلوبال ويتنس» لفحص مسار الأموال، من خطاب الاعتماد الموجه من مصرف ليبيا المركزي، إلى المصارف المملوكة لليبيين في قلب لندن. كما بين كيف يشرف النظام المصرفي الليبي على عمليات الاحتيال واسعة النطاق محليًا، وفق ما نقلته الجريدة.

تحويلات مشبوهة إلى مالطا

لكن لندن ليست المركز الوحيد لتلك المغامرات، التي ترمي إلى التغطية عن النشاطات المالية المشبوهة عبر الاعتمادات المستندية. وقال مسؤولون قضائيون إن صفية فركاش محمد، أرملة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي طعنت في قرار أصدرته محكمة في مالطا قضى بإعادة «بنك فاليتا» 100 مليون دولار إلى ليبيا، رغم أن من أودعها هو المعتصم نجل القذافي. ودفعت صفية فركاش ومحاموها في طعنهم بأن محاكم مالطا غير مختصة بالنظر في القضية، ولا يمكنها البت في قضية مالية. وصدر الحكم في نهاية حزيران/يونيو بعد معركة قانونية بدأت في العام 2012 أي بعد سنة من الإطاحة بالقذافي ومقتله عقب ذلك.
وعُثر بحوزة المعتصم، الذي قُتل أيضا، على العديد من البطاقات الائتمانية الصادرة عن بنك فاليتا بصفته مالكا لشركة مسجلة في مالطا. وكانت المحكمة الأصلية أيّدت دفوع النائب العام الليبي بأن المعتصم، بصفته ضابطا في الجيش، ممنوع من الاستفادة من أي مصالح تجارية، بموجب القانون الليبي. وفضلا عن ذلك، لم يقدم المعتصم إقرارا كاملا بالأصول، كما يقتضي القانون. وفي معرض طعنها، قالت أرملة القذافي إن القوانين الليبية التي استُند عليها في القضية هي قوانين جنائية، في حين لم تُرفع أي دعوى جنائية على المعتصم أو ورثته.
وطالت شبهات تهريب الأموال إلى الخارج أحد مساعدي القذافي البارزين، وهو علي الدبيبة، عمُ رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة. وكانت صحيفة «صاندي تايمز» البريطانية نشرت تقريرا مفصلا مقتبسا من تحقيق أجرته الشرطة الاسكتلندية، يتحدث عن تحويل مئات الملايين من الجنيهات من ليبيا، عبر «شبكة سوداء». لكن الدبيبة نفى وجود التهم التي ذكرتها الصحيفة. وكان علي الدبيبة مُشرفا على مشاريع البنية التحتية الرئيسة في ليبيا بين عامي 1989 و2011 واستثمر ملايين الجنيهات في عقارات فاخرة في إدنبرة ولندن، على الرغم من أن راتبه السنوي كرئيس «جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية» في ليبيا لا يتجاوز 12 ألف جنيه استرليني. وأكد مسؤولون ليبيون أن الأموال تم توجيهها من خلال شركات يبدو أنها مملوكة من قبل العديد من رجال الأعمال في اسكتلندا ولها صلات بعلي الدبيبة.
وأكد مكتب التاج والنيابة العامة في اسكتلندا من جهته أن التحقيق الذي أُطلق في العام 2014 ما زال جارياً، ما دفع رجال الأعمال الاسكتلنديين إلى التحدث علناً عن القضية للمرة الأولى، نافين أن يكونوا ضالعين في عمليات غسيل الأموال. وكان علي الدبيبة، بصفته رئيس جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية في ليبيا آنذاك، مسؤولاً عن ميزانية سنوية تقدر بحوالي 6 مليارات دولار. إلا أن المحققين والمحامين الذين استأجرتهم السلطات الليبية، شككوا في الروابط بين رجال الأعمال الليبيين والاسكتلنديين وشركاتهم، مؤكدين أنها شركات مرتبطة بعائلة الدبيبة، وأن جميع العلاقات بين الجانبين انتهت في العام 2009.

179 مليارا في جنوب أفريقيا

ومن بين الدول الرئيسية التي وجه إليها القذافي أموال ليبيا، جنوب أفريقيا، إذ أكدت تقارير إعلامية عدة أن الأموال الليبية المهربة إلى هناك تقدر بعشرات المليارات، بالإضافة إلی مئات الأطنان من الذهب وملايين القراريط من الألماس. ولم يتسن التعرف على تلك الثروة المهربة إلا عندما نشرت صحيفة «إندبندنت أون سنداي» تقريرا في العام 2014 قالت فيه إنها اطلعت على وثائق رسمية من حكومة جنوب أفريقيا تؤكد وجود 179 مليار دولار، في أدنى التقديرات، محفوظة بشكل غير قانوني، في مرافق للتخزين في محافظة غوتنغ في جنوب أفريقيا، بالإضافة إلى أطنان من الذهب و6 ملايين قيراط من الألماس.
وتحتاج السلطات الليبية أيضًا إلى تعاون جدي من سلطات جنوب أفريقيا حتى تتقدم خطوات في مهمة البحث عن الأموال في مرحلة أولى، ثم في مرحلة ثانية استرجاعها أو إعادة استثمارها هناك، حتى تعود بالفائدة على الطرفين. لكن خبراء يؤكدون أنه لا ينبغي انتظار حلحلة هذا الملف في الظروف الحاليّة بسبب عدم وجود جهة رسمية تتمتع بالشرعية في ليبيا. كما أن السلطات الليبية بدورها تبدو غير مهتمة اهتماما جديا باسترجاع تلك الأموال. أكثر من ذلك، هناك تأكيدات مفادها أن الأموال ما زالت تُهرب من ليبيا إلى اليوم، وأن من يشرف على ذلك مسؤولون في الدولة، بالتعاون مع ميليشيات في الداخل، وجهات خارجية بعضها عربي.
والمؤكد أن هناك، إلى جانب العمل على استرداد تلك الأموال المهربة، علاجات أخرى تساعد الدولة على الحد من النزيف المالي، أبرزها الكشف عن أرقام وطنية مزورة تُستخدم للحصول على رواتب غير مستحقة من المال العام. وأعلن الصديق الصور مؤخرا اكتشاف حوالي 63 ألف رقم وطني مزور، أي أنها أرقامٌ غير موجودة في منظومة السجل المدني، ما يستوجب مراجعة تلك القوائم مراجعة دقيقة. ودلت المعلومات التي عرضها النائب العام، في مؤتمر صحافي الأربعاء الماضي، على اتساع دائرة الفساد في ليبيا بعد سقوط النظام السابق، مؤكدا أنه تغلغل في مفاصل الدولة وفي جميع القطاعات. وأشار المستشار الصور إلى وجود عيوب في الأجهزة الشرطية ونهب للمال العام وجرائم تزوير للأرقام الوطنية بالآلاف. وحسب الصور استفاد 88 ألفاً و819 رقماً وطنياً غير صحيح من نحو 208 ملايين دينار، و29 ألف شخص من المنح دون وجه حق.
ويُبدي قطاع واسع من الليبيين غضبهم من استمرار الفساد في ظل الحكومات التي أتت بعد إسقاط النظام السابق، مُطالبين بإجراء التحقيقات اللازمة لتحديد قيمة الأضرار ومحاسبة المُذنبين وتطبيق القانون على الجميع. وهم يستغربون من أن التحقيق الذي أُطلق في اسكتلندا العام 2014 ما زال مفتوحا إلى اليوم، على سبيل المثال، كما أن قضايا الفساد التي اكتُشفت في السنوات الأخيرة لم يتم التعاطي مع المشتبهين فيها بالحزم المطلوب. ولذلك شاهدنا لافتات في المظاهرات الأخيرة تدعو إلى مكافحة الفساد وملاحقة مهربي الأموال إلى الخارج، فهل يرى الليبيون يوما رؤوس الفساد تُضبط وتُساق إلى المحاكم؟

تعليقات