رشيد خشـــانة – العاصمة طرابلس على قاب قوسين من عاصفة شديدة، تُشبه ربما هجوم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على الأحياء الجنوبية لطرابلس عام 2019.

اندلع قتال عنيف في العاصمة الليبية طرابلس ليل الجمعة واستمر حتى صباح أمس السبت، حيث تبادلت الفصائل المتناحرة إطلاق النار بكثافة ودوت أصوات عدة انفجارات عالية في أنحاء المدينة.

وقال شهود إن الاشتباكات اندلعت في وسط مدينة طرابلس وسط أزمة سياسية بشأن السيطرة على الحكومة الليبية شهدت حشدا متزايدا للجماعات المسلحة حول العاصمة في الأسابيع القليلة الماضية.
وتشهد طرابلس، منذ فجر السبت، اشتباكات مسلحة بين قوتين تابعتين لكل من المجلس الرئاسي ورئاسة أركان الجيش، أسفرت حتى الساعة عن مقتل الفنان الكوميدي مصطفى بركة.
وجرت الاشتباكات في عدة مناطق بالعاصمة بين مجموعة تابعة «للواء 777» (رئاسة الأركان) وأخرى تابعة لجهاز دعم الاستقرار (المجلس الرئاسي).
وأظهرت صور ومقاطع فيديو تم تداولها على الإنترنت لوسط المدينة، عربات عسكرية مسرعة في الشوارع، ومقاتلون يطلقون النار، وسكان محليون يحاولون إخماد الحرائق.
وسمعت في مناطق متعددة من المدينة أصوات الاشتباكات المستمرة، والقذائف، ونشرت مواقع تواصل اجتماعي مقاطع فيديو تظهر تبادل النيران في منطقتي باب بن غشير، وشارع الزاوية وسط المدينة، واحتراق سيارات في أحد الأحياء.
وأفادت وسائل إعلام ليبية بتعليق جامعة طرابلس الدراسة والامتحانات السبت بسبب الاشتباكات في العاصمة.
يأتي ذلك فيما تتواصل الاشتباكات حيث شوهدت أعمدة الدخان تتصاعد من مبنى الجوازات بعد سقوط قذيفة عشوائية عليه .
ودانت حكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، السبت، الاشتباكات المسلحة بمناطق مدنية في العاصمة طرابلس.
وقالت في بيان: «ما يشهده وسط مدينة طرابلس من اشتباكات عنيفة في أحياء مكتظة بالسكان والمدنيين، هو غدر وخيانة للمفاوضات التي نخوضها للذهاب إلى انتخابات كحلّ للأزمة السياسية».
وأضاف البيان: «هذه الاشتباكات نجمت عن قيام مجموعة عسكرية بالرماية العشوائية على رتلٍ مارّ بمنطقة شارع الزاوية، في الوقت الذي تتحشد فيه مجموعات مسلحة في بوابة الـ27 غرب طرابلس وبوابة الجبس جنوب طرابلس».
وأردف: «تزامنا مع ذلك، وردت معلومات أخرى عن تحشيدات عسكرية ستعبر من الطريق الساحلي إلى شرق طرابلس لزعزعة الأمن والاستقرار في المدينة (لم يحدد جهتها)».
وتابع: «هي محاولة بائسة لتوسيع دائرة العدوان على المدينة، وتنفيذًا لما أعلنه المدعوّ فتحي باشاغا (رئيس الحكومة المكلف من البرلمان) من تهديدات باستخدام القوة للعدوان على المدينة».
واستطرد: «جلسة التفاوض الثالثة التي كان من المفترض أن تعقد الجمعة في مدينة مصراتة لمناقشة تفاصيل الاتفاق، أُلغيت وبشكل مفاجئ بالتزامن مع التصعيدات العسكرية في طرابلس ومحيطها».
واتهم البيان، حكومة باشاغا «بالتهرّب في آخر لحظة، بعد أن كانت هناك مؤشرات إيجابية نحو الحل السلمي بدلًا من العنف والفوضى».
ولم يصدر تعليق فوري من حكومة باشاغا حول هذه الاتهامات.
ولم تصدر وزارتا الداخلية والصحة أي تعليق حتى الآن بشأن القتال أو بخصوص وقوع إصابات.
ونقلت قناة «ليبيا الأحرار» عن الناطق باسم جهاز الإسعاف والطوارئ أسامة علي قوله إن «هناك إصابات في صفوف المدنيين جراء الاشتباكات في طرابلس» مشيرا إلى صعوبة في التحرك في أكثر من منطقة.
وعرضت القناة، عبر حسابها بموقع «فيسبوك» جانبا من الأضرار التي لحقت بممتلكات المواطنين واحتراق عدد من الشقق والسيارات جراء الاشتباكات .
من جانبها، حملت بلدية طرابلس مجالس النواب والدولة والرئاسي والحكومتين مسؤولية تردي الأوضاع في العاصمة طرابلس مطالبة المجتمع الدولي بحماية المدنيين.
وقالت البلدية، في بيان عبر صفحتها بموقع فيسبوك، إنه «في الوقت الذي دعى فيه كل العقلاء والحكماء والمواطنين والمجتمع الدولي إلى تجنب لغة التحشيد والتهديد نتفاجأ باشتباكات في قلب العاصمة لا تعبأ بحياة المدنيين ولا ممتلكاتهم وهذا نتيجة سوء إدارة الدولة من الجهات التشريعية والتنفيذية ورغبتها في الاستمرار في الحكم وتأجيل الانتخابات إلى ما لا نهاية».
وأضافت أن «المجلس البلدي وسكان طرابلس المركز يحملون البرلمان والمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي والحكومتين المسؤولية على تردي الأوضاع في العاصمة ويطالبون المجتمع الدولي بحماية المدنيين في ليبيا كما يدعون السكان إلى الوقوف يدا واحدة ضد هذه التعديات التي أصبحت تعرض حياتهم للخطر».
وكان الناطق باسم مركز طب الطوارئ والدعم الليبي مالك مرسيط أكد مقتل الممثل الكوميدي مصطفى بركة جراء الاشتباكات ونقل جثمانه إلى مستشفى طرابلس الجامعي.
ونقلت قناة «ليبيا الأحرار» عن مرسيط قوله إن فريق الإخلاء التابع لمركز طب الطوارئ والدعم يستعد لتوفير ممرات آمنة للعائلات العالقة في باب بن غشير.

الخطر جديٌ ووشيك

الإدارة الأمريكية أصدرت في وقت سابق، عبر وزارة الخارجية، بيانا تُعرب فيه عن «قلقها الشديد» جراء التهديدات الجديدة باندلاع اشتباكات عنيفة في طرابلس، في مؤشرٌ مهمٌ على أن الخطر جديٌ ووشيك، خاصة أن بيان الرئيس بايدن دعا إلى «وقف التصعيد الفوري من قبل جميع الأطراف». ويُعزى هذا التحذير الأمريكي إلى مصدرين أساسيين أولهما التداعيات الإقليمية المحتملة لاستمرار الأزمة في ليبيا، أما الثاني فمُرتبط بتطورات عالم الطاقة.
من هنا نلحظ في الموقف الأمريكي كلمات تتردد ولها دلالاتها في السياق الراهن، من قبيل «تعمُق الانقسامات الداخلية» أو «المأزق المؤسسي يُهدد بانحراف عنيف» أو ضرورة «نزع فتيل الأزمة». ومدلول هذه العبارات، المتقاربة في معانيها، أن التقارير الأمريكية تؤكد أن العاصمة طرابلس على قاب قوسين من عاصفة شديدة، تُشبه ربما هجوم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على الأحياء الجنوبية لطرابلس في العام 2019. وتعززت هذه المخاوف بإعلان الهيئة الطرابلسية الجمعة، أن أي عمل عسكري يهدد طرابلس يضعُ أصحابه تحت طائلة القانون الوطني والدولي. وعبرت الهيئة عن رفضها «جعل طرابلس ساحة اقتتال من أجل السلطة» مُتوعدة أي طرف يهدد بعمل عسكري أو يُنفذه داخل طرابلس، بأنه سيكون تحت طائلة القانون الوطني والدولي، جراء ارتكابه جُرم الخيانة العظمى، التي يحاسب عليها القانون الليبي، وفق بيان الهيئة الطرابلسية.
كما طالبت بإجراء انتخابات تشريعية في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، واختيار حكومة تكنوقراط وطنية، بعيداً عن منطق المحاصصة «تُراعي حرمة الدم والعرض، وتحافظ على ما تبقى من لُحمة وطنية ومقدرات الوطن».
وفي مسار مُواز يتعلق بملف النفط والغاز، تبدو الحاجة الملحة للأمريكيين للترفيع من إنتاج النفط الليبي، الذي لا يتجاوز حاليا 700 ألف برميل يوميا، إلى مليوني برميل. لكن ذلك يتطلب حدا أدنى من استتباب الأمن والاستقرار في البلد. غير أن محللين رأوا أن تلك الحركة كانت جزءا من الانفراج المُسجل في العلاقات بين القوى الخارجية المُتداخلة في الملف الليبي، ومنها الإمارات وتركيا ومصر وإلى حد ما روسيا وفرنسا.
ومع أن الدول المذكورة لا تبدو على قناعة بقدرة الأمم المتحدة على رعاية الحل النهائي في ليبيا، خاصة في ظل تأخُر تعيين ممثل خاص جديد للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، من أجل استئناف جهود الوساطة بين الفرقاء، فإن تلك الدول ما زالت متشبثة بضرورة إجراء الانتخابات، بوصفها الحل السلمي الوحيد للصراع في ليبيا. وعلى خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن المليوني برميل المحتملين، اللذين يمكن أن تنتجهما ليبيا في اليوم، لهما وزن كبير في العلاقات بين السلطات الليبية، أيا كان الحاكم في طرابلس، والشركاء الخارجيين، وفي مقدمهم إيطاليا.

المدنيون هم الضحايا

إن أي تدهور للوضع الأمني سيُسبب ردود أفعال غاضبة من المدنيين، الذين ذاقوا الأمرين من القتال بين قوات اللواء خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني، قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في خريف 2020. وتسببت تلك المعارك بنزوح أعداد كبيرة من سكان الضواحي الجنوبية لطرابلس، التي شهدت أعنف المعارك في 2019. ومع تعطُل المسار الدستوري وإخفاق محاولات رأب الصدع بين الفريقين المتصارعين، أبدت الأمم المتحدة مخاوف كبيرة من تجدُد القتال. وأفادت مصادر مطلعة أن القائم بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ريزدون زينينغا، نقل تلك المخاوف إلى رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، مُشددا على ضرورة الخروج من الأزمة السياسية والجمود في المسار الدستوري، بما يؤدي لتنظيم انتخابات على أسس دستورية وقانونية. وقد تكون الأمم المتحدة لمست لدى الطرفين إصرارا على رفض التنازل، خاصة في ظل تواتر اجتماعات في الجانبين يشارك فيها عسكريون. وفي محاولة لتهدئة الأجواء ترأس رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بصفته (أي المجلس) القائد الأعلى للجيش، اجتماعا حضره كلٌ من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس الأركان العامة الفريق أول محمد الحداد، ورئيس جهاز المخابرات الفريق حسين العائب، ووزير الداخلية المكلف بدرالدين التومي، ورؤساء الأركان النوعية، إلى جانب رئيس جهاز الأمن الداخلي لطفي الحراري، وفق بيان صادر عن المجلس.
وأشارت أكثر التوقعات تشاؤما إلى سيناريو مفاده «أن الصدام آت ما لم تدرك الفرقاء استفاقة أخيرة» وهي استفاقة تبدو مستبعدة في ضوء بيانات باشاغا المتتالية خلال اليومين الأخيرين، على ما جاء في بوابة «ليبيا المستقبل». والأرجح أن القوى الإقليمية، وخاصة مصر التي تدعم باشاغا، ستغض الطرف عن النار التي قد يُشعلها هذا الأخير، في العاصمة طرابلس. كما يُرجح أن تقف الجزائر إلى جانب رئيس حكومة الوحدة الوطنية، التي قال الرئيس عبد المجيد تبون إنها الحكومة الوحيدة التي تحظى بالشرعية، والتي تعترف بها الجزائر. أكثر من ذلك سبق للرئيس الجزائري أن أعلن أن «طرابلس خطٌ أحمرُ» ما يعني أن الجزائر لن تبقى مكتوفة اليدين لو اجتاحت جماعات مسلحة تابعة لباشاغا العاصمة طرابلس، من أجل إخراج حكومة الدبيبة منها، والحلول محلها. والأرجح أن تبون تطرق للملف الليبي في محادثاته مع الرئيس الزائر إيمانويل ماكرون في الجزائر. غير أن هذا الملف سيبقى أحد عناوين الخلاف بين باريس والجزائر، منذ التدخل العسكري للحلف الأطلسي في ليبيا العام 2011 بقيادة فرنسا وبريطانيا. والمؤكد أن الجزائر لن تقبل بتهميشها في أي اتفاق سلام مقبل في ليبيا، مثلما تم استبعادها من اجتماعات الصخيرات، ولاحقا من تفاهمات بوزنيقة في المغرب. والمُلاحظ أن الجزائر كانت مشغولة في تلك الفترة بمجابهة الحركة الاجتماعية الواسعة للمطالبة بتنحية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ثم بالانتخابات التي أعقبتها. فهل أن سيناريو التدخل الجزائري سيجعل باشاغا ورُعاة معركته، يجنحون إلى الحلول السلمية؟

تعليقات