رشيد خشـــانة ـ لعل الكلمة الأكثر تداولا على شفاه القادة الليبيين هذه الأيام هي كلمة «الشرعية». الجميع يسحبها إليه كي يجعل منها بساطا يسافر عليه إلى المراكز العليا في دولة، مؤسساتها مؤقتة ومتصدعة. ومع نهاية المعارك التي أقضت مضاجع الطرابلسيين الأسبوع الماضي، على مدى أيام وليال، صار الرأي العام، إن جاز الكلام عن رأي عام في الظرف الراهن، مُصرا على طرد أي جسم من الأجسام السياسية أو العسكرية من العاصمة. وعليه إذا ما حاول رئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب، فتحي باشاغا المغامرة مجددا بالدخول إلى طرابلس عُنوة، فسيتصدى له المدنيون قبل العسكريين. والثابت أن وزير الدفاع الأسبق أسامة الدغيلي الذي خطط وقاد الهجوم على مناطق في طرابلس، وقبل ذلك في مدينة مصراتة، لا يُحسن تقدير القوة العسكرية للخصم، فيُضطر في كل مرة إلى الانسحاب في صفوف مُبعثرة ومُرتبكة. لكن ما زال باشاغا يعتبر حكومته هي الحكومة الشرعية بوصفها مُنبثقة من البرلمان. أما غريمه عبد الحميد الدبيبة فيتمسك بكرسي رئاسة الوزراء، ولن يُسلمه إلا إلى حكومة منتخبة، طبقا لمخرجات «منتدى الحوار السياسي الليبي» في جنيف.

حرب شرعيات

في حرب الشرعيات هذه، ينزع كل طرف صفات الشرعية عن غريمه، وينسبها لنفسه حصريا، مع أن الجميع فقدوها منذ زمن. وبمراجعة السياقات التي ظهر فيها كل جسم، نُدرك أن التشبث بأشلاء الشرعية ليس سوى ورقة توت للاستمرار في الحكم، بلا سقف واضح، بالرغم من انتهاء التفويض الممنوح لها. وأفضل مثل يمكن أن نضربه عن المؤسسات مُنتهية الشرعية مجلس النواب، المؤلف نظريا من مئتي عضو، وقد انتُخب ليبقى أربع سنوات، يُشرف خلالها على عملية الانتقال إلى دستور جديد. لكنه باق ومُتشبث بالبقاء، ما يجعله جسما منتهي الصلاحية. ومنذ 2014 بات رئيسُه المستشار القانوني عقيلة صالح (78 عاما) أكبر داعم للواء المتقاعد خليفة حفتر (79 عاما) الذي استحوذ على جميع السلطات في المنطقة الشرقية، مُتمردا على السلطة المركزية في طرابلس. وأجرى عقيلة صالح سلسلة مباحثات مع غريمه رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، الشهر الماضي في القاهرة، للوصول إلى حل سياسي للأزمة في ليبيا، لكنها باءت بالفشل.
ومنذ البدء ظهرت شروخ وتصدعات أضعفت مجلس النواب، فمقرُه هو مدينة بنغازي (شرق) غير أن الغالبية فضلت لأسباب أمنية أن يكون في مدينة طبرق، وهو ما لا يتعارض مع «الإعلان الدستوري» الذي يُبيح عقد اجتماعات المجلس في أية مدينة ليبية. وبموجب الاتفاق السياسي الليبي المبرم العام 2015 في منتجع الصخيرات المغربي، تعزز الاعتراف الدولي بمجلس النواب، بوصفه البرلمان الشرعي، وبالمجلس الأعلى للدولة، باعتباره الغرفة الثانية الاستشارية بالبرلمان، وبحكومة الوفاق الوطني المؤقتة، برئاسة فايز السراج، بوصفها حكومة كل ليبيا.

حكومة موازية

لكن هذا الاتفاق لم يُخمد الحرب الأهلية الأولى، التي أضرم نارها اللواء حفتر بعنوان «عملية الكرامة» في مواجهة قوات «فجر ليبيا». كما دعم عقيلة صالح وغالبية أعضاء مجلس النواب حكومة موازية في الشرق برئاسة عبد الله الثني. وانخرط صالح وأنصاره في لعبة التحالفات والمحاور، من خلال علاقات شخصية، أقامها مع كبار المسؤولين في بلدان متداخلة في الملف الليبي، أبرزها مصر وروسيا والإمارات، عوض الالتزام بالتفويض الذي منحه إياه مجلس النواب، لمدة أربع سنوات، ليكون البرلمان الوطني لكامل البلد، ويُشرف على الانتقال إلى دستور جديد، يضعه كيانٌ آخر مُنتخب.
المجلس الأعلى للدولة: تشكل بعد الاطاحة بنظام معمر القذافي (1969-2011) تحت اسم «المؤتمر الوطني العام» (200 عضو في البداية) وتألف من الفائزين في انتخابات العام 2012، إلا أن زعماءه، وغالبيتهم من التيار الأصولي، يشككون في شرعية انتخابات 2014 التي كان تيارُهم أكبر الخاسرين فيها. مع ذلك تم نقل السلطة رسميا من «المجلس الوطني الانتقالي» (برلمان مؤقت غير منتخب) إلى المؤتمر الوطني العام. وسلم مصطفى عبد الجليل منصبه كرئيس للدولة إلى محمد علي سالم، أكبر أعضاء المؤتمر سنا. وأدى أعضاؤه القسم برئاسة سالم. فهل تحلحلت الأزمة السياسية والدستورية؟ على العكس من ذلك، تعمقت الانقسامات، وطفت على السطح. وكان من الواضح أن المؤسسات السياسية الليبية، التي أخفقت في التغلب على الخلافات العميقة بين السلطات المتنافسة، في شرق البلاد وغربها، لم تصل إلى حل سياسي للأزمة. ولم تُجد نفعا سلسلة الاجتماعات التي أجراها عقيلة صالح وخالد المشري في القاهرة وجنيف، للاتفاق على تشكيل حكومة مؤقتة ومصغرة، بُغية وضع قطار الانتخابات على السكة.
ويتعرض المجلس الأعلى للدولة إلى انتقادات حادة بالنظر إلى انتهاء تفويضه، الذي يعتبره منتقدوه فاقدا للشرعية، وباستعمال رئيسه منصبه لتنفيذ أجندته الخاصة. وتعتبر عقدة المنشار في هذا الصدد إصرار بعض زعماء المنطقة الشرقية، على رفض ما نص عليه مشروع الدستور بشأن منع مزدوجي الجنسية من الترشح للرئاسة، وهو شرط يضع اللواء حفتر، الحامل للجنسية الأمريكية، خارج الملعب الانتخابي. وأخفقت اللجنة الدستورية المشتركة، المشكَّلة من أعضاء مجلسي النواب والأعلى للدولة، في التوافق على القوانين الانتخابية، خلال جولتين من المفاوضات استضافتهما القاهرة، منتصف العام الجاري، وذلك قبل أن يفشل أيضاً اللقاء الذي عُقد في مدينة جنيف السويسرية في يونيو/حزيران الماضي، بين صالح والمشري، في التوصلّ لحل بشأن المواد الخلافية، والتي تتعلق بشروط الترشح للانتخابات الرئاسية، وقد كانت السبب الأساس في إرجاء العملية الانتخابية، التي كانت مقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي، إلى تاريخ غير مُسمى.
المجلس الرئاسي: بموجب الاتفاق السياسي، المًوقع في 17 كانون الأول/ديسمبر 2015 في منتجع الصخيرات بالمغرب، برعاية الأمم المتحدة، تمت الموافقة بالإجماع على إنهاء الحرب الأهلية وتشكيل مجلس للرئاسة وحكومة تنفيذية تُسمى «حكومة الوفاق الوطني». وتم الاتفاق أيضا على ترؤس فايز السراج (عضو سابق بمجلس النواب) الحكومة، التي أصبحت الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا. لكنها حكومة غير منتخبة، إذ أنها تستمد شرعيتها من مصدرين هما الاتفاق السياسي ودعم مجلس الأمن الدولي لها. ونتيجة لهذا الاتفاق، انسحب رئيس الحكومة الموازية خليفة الغويل من العاصمة طرابلس، واستقر في مصراتة، قبل أن ينتهي دوره السياسي.
وتألف المجلس الرئاسي في البدء من تسعة أعضاء، وهم رئيس المجلس وخمسة نواب للرئيس وثلاثة وزراء دولة من مناطق مختلفة. ويضطلع المجلس بمهام رئيس الدولة بصفة مشتركة، ويتولى القيادة العليا للجيش. ويشترط الاتفاق موافقة الرئيس وجميع نوابه قبل إجازة أي قرار. ويُعاني المجلس الرئاسي بدوره من أزمة شرعية، لكونه جسما غير منتخب، ومتأثرا بموازين القوى السياسية داخل المجلس وخارجه. وفي الخامس من شباط/فبراير العام الماضي، تجددت تشكيلة المجلس، فإلى جانب تثبيت رئيسه محمد المنفي، تم ضم عبد الله اللافي وموسى الكوني إلى المجلس، بوصفهما نائبين للرئيس، إضافة للعضو الرابع وهو رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة. وواضح أن تلك التسميات تمت في إطار توافقات بين السياسيين في جنيف، بإشراف مباشر من الأمم المتحدة، ولا دخل لعموم الليبيين فيها، ذلك أن الجهة التي تولت «انتخاب» أعضاء المجلس الجُدد، هي الإطار المُسمى «منتدى الحوار السياسي الليبي». ويتألف المنتدى من 75 عضوا مُعينين من بعثة الأمم المتحدة، بهدف الإعداد للانتخابات الوطنية، التي كان مقررا إجراؤها في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021 وإعادة توحيد مؤسسات الدولة الليبية، طبقا لخريطة الطريق، التي اعتمدها المنتدى في تونس، منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط: على الرغم من الطابع الاقتصادي لهاتين المؤسستين الرئيستين في ليبيا، ألقت الخلافات السياسية بظلالها عليهما، على نحو جعلهما محل تجاذبات حادة بين الأطراف المتصارعة. وأدى ذلك إلى عزل الرئيس السابق للمؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، الشهر الماضي، بشكل مفاجئ، وتسمية أحد المقربين من رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة مكانه. وكانت المؤسسة عُرضة لضغوط عديدة ومستمرة لإخضاعها إخضاعا كاملا لهذا الطرف أو ذاك، ما اضطرها إلى صرف أموال طائلة للفريقين المتصارعين، تحت ضغوط أمراء الحرب. وتُعتبر المؤسسة القلب النابض للاقتصاد الليبي، إذا لم يُبادر رؤساء الميليشيات وحراس الحقول والموانئ النفطية، إلى غلقها لإحراج السلطات السياسية وابتزازها، مثلما فعلوا عديد المرات.
أما مصرف ليبيا المركزي، الذي نُهبت منه أموال كثيرة في أعقاب انتفاضة 2011 فظل محافظا نسبيا على توازناته، واستطاع الاستمرار في تمويل الموازنات السنوية للحكومة. غير أن الانقسام بين الشرق والغرب ألقى عليه بظلال كثيفة هو الآخر، ما جعل فرعه في المنطقة الشرقية يقطع علاقته بالمؤسسة الأم في طرابلس. والتجأ فرع المصرف في بنغازي إلى روسيا لطبع أوراق نقدية من دون المرور بالمؤسسة التي هي مرجعُ نظره.
أكثر من ذلك، تجري حاليا محاولات لنقل مقر المحكمة العليا من العاصمة طرابلس إلى مدينة البيضاء. وأرسل عقيلة صالح مذكرة في هذا المعنى إلى كل من رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ومستشاري المحكمة العليا، طلب فيها «نقل مقر انعقاد جلسات المحكمة العليا مؤقتا إلى مدينة البيضاء». وعزا هذا الطلب إلى «الحرص على وحدة واستقلال السلطة القضائية» إلا أن رئيس المجلس الأعلى ومستشاري المحكمة العليا رفضوا ما جاء في المذكرة، مستندين إلى القانون رقم 6 لسنة 1982 الذي يُحدد مقر المحكمة العليا في طرابلس.
وفي السياق وجه سياسيون ليبيون أصابع الاتهام للميليشيات بالتسبب في الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس، وحملوها وزر المواجهات المسلحة في العاصمة. إلا أن هؤلاء ينسون أن تلك الأجسام المسلحة تخضع لقيادات سياسية تأتمر بأوامرها. واستطرادا فإن البحث عن حل للأزمة موكولٌ إلى من يُمسكون بالسلك الكهربائي، ومن يُديرون شبكات الإتجار بالأسلحة. وحسب ما نقلته صحيفة «ليبيا المستقبل» يشهد البلد تصاعدا لافتا للغضب حيال الميليشيات المسلحة، وحيال ما يصفها متابعون بـ«فوضى السلاح» التي تقوض فرص التوصل إلى تسوية تفاوضية، وتُعيق إجراء الانتخابات.

غضب في غالبية المدن

وتأثرت أجسام ومؤسسات أخرى بالاضطرابات السياسية وغياب الاستقرار، ما انعكس سلبا في سير دواليب الدولة، وأثار موجة من الغضب والاستياء لدى الليبيين انفجرت في مدن عدة، مُوجهة أصابع الاتهام إلى الطبقة السياسية برمتها. ومن خلال الحديث إلى مواطنين ليبيين في طرابلس، يتضح أن هناك شعورا عارما بأن شرعية الأجسام المُسيطرة انتهت، وأن عليها أن ترحل وتفسح المجال لإجراء الانتخابات الموعودة. وانطلاقا من هذا الشعور لوحظ أن الشعارات التي رفعها المتظاهرون في ميدان الشهداء بالعاصمة، وكذلك في المدن الأخرى، تُشدد على ضرورة التخلص من الأجسام القائمة، والذهاب مباشرة إلى الانتخابات. وهي تنتقد بشدة تمسك الحكومات السابقة بالسلطة وتمديد المرحلة الانتقالية من دون وضع سقف لها. وزاد تدهور الأوضاع المعيشية وانقطاعات الكهرباء وشح السيولة في المصارف من غضب الشارع على السلطات المؤقتة، بسبب إخفاقها في تسوية الخلافات بينها. وسيكون لهذا الضغط الشعبي تداعياته على النخب السياسية سواء في الحكم أم خارجه.
ولوحظ أن الاحتجاجات المتزامنة في أكثر من عشر مدن ليبية، والتي لم تشهد ليبيا مثيلا لها في السنوات الأخيرة، ركزت على مطلب إسقاط الأجسام القائمة واستقالة القائمين عليها، بوصفها فقدت الشرعية. ووصلت موجةُ السخط إلى حد اقتحام مقر مجلس النواب في مدينة طبرق. كما ارتفع منسوب الغضب بعد الإعلان عن فشل اللقاءات الأخيرة التي استضافتها القاهرة وجنيف بين عقيلة صالح وخالد المشري. وقد دعت إلى هذه الحركة الاحتجاجية تيارات شعبية، التأمت تحت مسمّى «حراك بالتريس الشبابي»، الذي يدعو إلى إخراج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، ورفض العسكرة وتسلط الميليشيات.

اردوغان على الخط

كان لافتا أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان دخل على خط الأزمة الليبية الجديدة، داعيا الغريمين الدبيبة وباشاغا للحضور إلى اسطنبول. ولم يُعرف ما إذا كانت تركيا وضعت الأطراف الاقليمية والدولية، وفي مقدمها أمريكا ومصر وقطر، في صورة المبادرة الجديدة أم لا. والأرجح أن اردوغان سيطلب من الطرفين المتصارعين التعهد بوقف الاشتباكات في الأحياء والضواحي السكنية لطرابلس. لكن ليس أكيدا أن الوساطة التركية ستُكلل بالنجاح، وتختلف نتائجها عن المبادرات السابقة، بالرغم من أهمية الأوراق التي تحتفظ بها أنقرة في جعبتها. وقد يكون غريمُها حفتر قادرا على إفشال المبادرة، بالتعاون مع داعميه الاقليميين والدوليين، لكونه أحد المستفيدين من استمرار الوضع القائم.

تعليقات