رشيد خشـــانة – الأرجح أن الأمريكيين لو وجدوا اليوم جيشا مُنظما ومدربا على القواعد المهنية في ليبيا، لجربوا التعاطي معه، في أفق لعب دور سياسي يمكن من إنهاء الصراع الأهلي.

عندما تُعلن الولايات المتحدة أنها تتطلع إلى «الشراكة مع جيش ليبي موحد يساعد البلاد على الخروج من أزمتها، رغم التحديات التي تواجه هذا المسار» فذلك يعكس مللا عميقا من الصراعات البيزنطية بين الزعماء السياسيين، وبحثا عن شركاء آخرين. فليس مألوفا أن يتحدث الأمريكيون عن الجيش الليبي، وربما كانت الخيبات التي واجهوها مع أهل السياسة، منذ العام 2014 هي التي جعلتهم يفقدون الثقة بهؤلاء، ويُفتشون عن بدائل من داخل ليبيا، حسب ما قال القائم بالأعمال الأمريكي في طرابلس ليزلي أوردمان، في تغريدة نشرتها السفارة على منصة «تويتر». أكثر من ذلك عبر الدبلوماسي الأمريكي عن «سعادته» بإرسال وفد عسكري ليبي مشترك إلى المعرض الدولي للطيران والدفاع والفضاء في جزيرة جربة التونسية أخيرا.
وقاد الوفد المشترك، في أول بادرة من نوعها، كلٌ من رئيس الأركان العامة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية الفريق أول محمد الحداد، ورئيس أركان قوات القيادة العامة الفريق أول عبد الرازق الناظوري، المُقرب من اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وزاد أوردمان إيضاحا بقوله إن الشعب الليبي يستحق أن يكون له جيش موحدٌ، قادرٌ على الدفاع عن سيادة بلاده، كما يستحق حكومة منتخبة ديمقراطيًا تمثل ليبيا موحدة.
ولم يتمكن الجيش الليبي من إعادة اللحمة بين مكوناته منذ قرر الزعيم الراحل معمر القذافي حلهُ، بعد تعدُد المحاولات الانقلابية التي استهدفته، فأحدث «رئاسة أركان الوحدات الأمنية» في العام 1979. إلا أن الحدث الحاسم تمثل بإخراج ذلك الجيش البديل من تشاد، في 1987 إثر حرب دامت ثماني سنوات، إذ عاد بمعنويات منهارة، فاقدا الكثير من العسكريين من جميع الرتب، فتغولت وحدات «رئاسة أركان الوحدات الأمنية» المسماة «كتائب الأمن والحرس» واستأثرت بجميع إمكانات المؤسسة العسكرية، وتم التضييق على القوات المسلحة، التي أعيدت تسميتها «الشعب المسلح».
والأرجح أن الأمريكيين لو وجدوا اليوم جيشا مُنظما ومدربا على القواعد المهنية في ليبيا، لجربوا التعاطي معه، في أفق لعب دور سياسي يمكن من إنهاء الصراع الأهلي. وأثبتت التجارب في بلدان كانت متأزمة، أسوة بمصر والسودان أن الإدارات الأمريكية لا ترفض التحاور مع العسكر، ولا تعترض على منحهم دورا سياسيا، إذا ما تأكد لديها أن مفاتيح الاستقرار في أيديهم.
أما في ليبيا، فبالإضافة لزحف الكتائب القذافية، بقيادة معتصم معمر القذافي، على مدينة بنغازي، لسحق انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 تم استخدام ما تبقى من قوات الجيش الليبي المتمركزة في قاعدة بنينة (بنغازي) ما دفع الحلف الأطلسي إلى ضرب القوات الموالية للقذافي، حتى تقهقرت إلى مدينة أجدابيا (160 كلم جنوب بنغازي) ثم انسحبت إلى سرت. ولم يستطع ما تبقى من التشكيلات العسكرية لعب دور في العملية الانتقالية، إذ دخل في مواجهات جديدة مع التشكيلات الموازية له، وهي «كتائب الثوار» والميليشيات التي تشكلت بعد سقوط النظام. وما زاد الأمر تعقيدا، إعلان القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر أنه قائد «الجيش الوطني الليبي» مع إحكام قبضته ليس فقط على بنغازي، وإنما أيضا على غالبية الحقول والموانئ النفطية في الشرق والجنوب.
ومع انهيار النظام، أقبلت عناصر الميليشيات على مخازن الأسلحة التابعة للجيش تنهب منها ما استطاعت إليه سبيلا، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة، وهو ما يُفسر امتلاك كثير من تلك الجماعات، الخارجة عن الدولة اليوم كميات كبيرة من الأسلحة من جميع الأحجام.
وما من شك بأن من قطعوا الطريق على أي دور للجيش، إذا ما توحد، في الوصول إلى الحل النهائي، هم الذين قطعوا رأس المؤسسة العسكرية، من خلال الاغتيالات التي طالت 600 من القادة العسكريين، من جميع الرتب، في مدينة بنغازي. والغريب أن الدولة، مُمثلة في «المؤتمر الوطني العام» (برلمان انتقالي) لم تُحرك ساكنا، حتى وصل الأمر إلى الإعلان عن تشكيل «قيادة عسكرية» بقيادة حفتر تحت عنوان محاربة الإرهاب في بنغازي والمنطقة الشرقية. والأرجح أن الأمريكيين لو وجدوا اليوم جيشا مُنظما ومدربا على القواعد المهنية في ليبيا، لجربوا التعاطي معه، في أفق لعب دور سياسي يمكن من إنهاء الصراع الأهلي. وهذا ما أكده أوردمان حين قال إن الولايات المتحدة تتطلع إلى «الشراكة مع جيش ليبي موحد، قادر على حماية الوطن ويكون مصدر استقرار وفخر للوطن بأكمله». وفي الاتجاه نفسه حض رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا عبد الله باثيلي على استئناف الحوار بين رئيسي الأركان الحداد والناظوري، بُغية توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية.

حوارٌ مع العسكر

لكن ملف الأزمة الليبية ما زال بين أيدي المسؤولين السياسيين، بحكم طبيعة المرحلة التي تجتازها الأزمة حاليا، وسيبقى كذلك. وشكل الاجتماع الثلاثي الأمريكي-القطري-الليبي أخيرا في الدوحة، فرصة لمناقشة الحاجة لتوحيد السلطة التنفيذية وتجديد الشرعية، إضافة إلى إيجاد قاعدة دستورية وقانون للانتخابات. والظاهر أن القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الأزمة الليبية باتت موافقة على خطة لإعادة توزيع النفوذ بينها، في منطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط، مع الأخذ في الحسبان المصالح الروسية المتجددة من جهة، ومقتضيات عدم المساس بالمصالح الأمريكية أيضا، من ناحية ثانية.
ويُعتبر التقارب النشط بين تركيا وقطر من جانب، والإمارات ومصر وروسيا من جانب ثان، حول الملف الليبي تحولا مهما في مسار الحل السلمي في ليبيا. وتسعى أمريكا إلى ضم تركيا إلى مناخ التقارب هذا، إذ أعلن السفير والموفد الأمريكي الخاص لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، أنه أجرى ما وصفها بـ«مشاورات مفيدة» مع مدير عام دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالخارجية التركية في أنقرة، محورها الجهود المبذولة لتحديد «ميقات مقبول» للانتخابات، من دون أن يكشف عن مزيد من التفاصيل. ولم تتسن معرفة خريطة الطريق، التي ناقشها أعضاء المطبخ الليبي في الدوحة، لكن الأرجح أنها تمحورت حول ظروف عقد مؤتمر جديد بعنوان «برلين3»، لإعادة قطار الحل السياسي إلى السكة وإحياء خريطة برلين، التي تجاوزتها الأحداث.
وانعكس ذلك في تقارب مماثل بين الفرقاء الليبيين، وخاصة بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح (الذي زار الدوحة للمرة الأولى) ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، اللذين اجتمعا في جنيف ثم في المغرب، بعد سنوات من الجفاء. أما وجهة النظر الألمانية فترى أن مناقشة شرعية الحكومتين المتوازيتين، التي لا يوجد إجماع دولي كامل عليها، ليست حلا، وإنما ينبغي الاعتراف بهذه المشكلة أولا، بحسب السفير الألماني لدى ليبيا ميخائيل أونماخت. وشدد أونماخت في حديث أدلى به لإحدى القنوات التليفزيونية العربية، على ضرورة العودة إلى خريطة الطريق، قبل الحديث عن مؤتمر «برلين3».

دولة مدنية

ما العمل إذا: المؤتمر أولا أم خريطة الطريق في المقام الأول؟ يجيب بعض الليبيين رافضين هذه الثنائية، واضعين إجراء الاستفتاء على الدستور في مقدم الأولويات. ورأى عضو الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور ضو المنصوري أن فرص نجاح المؤتمرات الدولية في إيجاد حلول للأزمة الليبية، هي فرصٌ تُحيط بها العديد من المخاوف، وأولها تضارب المصالح بين الدول المؤثرة على الصعيد الدولي، وثانيها رغبة البعض الآخر بتصفية الحساب مع دول أخرى، مُتخذة من الأراضي الليبية مسرحا لها. ويُذكر المنصوري هنا بالإعلان الدستوري الذي أصدره «المجلس الوطني الانتقالي» (غير منتخب) في 2011 والذي احتوى على الخطوط العملية لقيام دولة مدنية. كما يُذكر بانتقال السلطة من المجلس إلى المؤتمر الوطني العام في السنة التالية. وقد حدد القانون طريقة انتخاب الهيئة التأسيسية ومهامها واستقلاليتها. واعتبر التعديل الدستوري السابع، الذي انتخبت بناء عليه الهيئة التأسيسية، أنها مُحددة المهام، ومنها تأسيس الدولة الليبية بوصفها سلطة تأسيسية، لا تتدخل فى عملها أية سلطة قائمة، وهو ما أكدته المحكمة العليا في ردودها على جميع الطعون التي رُفعت إليها.
وعلى هذا الأساس باشرت الهيئة التأسيسية (وهي منتخبة من الشعب في اختيار عام حر) أعمالها في 21 نيسان/ابريل 2014 واستكملت صياغة مشروع الدستور في 29 تموز/يوليو 2017. وعرضت خلاصة أعمالها، في جلسة علنية بواقع 43 صوتا من 44 صوتا كانوا حاضرين جلسة التصويت، وبنسبة تفوق النسبة التي اشترطها الإعلان الدستوري في مادته الثلاثين. لذا استبشر الليبيون بذلك الانجاز، مُتوقعين أن يكون طوق النجاة لإنقاذ المسار السياسي. وبتعبير آخر، أيقن كثيرون أن الاستقرار في ليبيا لن يكون إلا باستكمال المسار التأسيسي، والاستفتاء على مشروع الدستور، واعتبار من يقف ضد ذلك، معرقلاً للعملية السياسية، ومهدداً للأمن والسلم الاقليميين.
لكن ليس هذا رأي المُتنفذين حاليا، وفي مقدمهم عقيلة صالح وخالد المشري. فلئن اجتمعا أخيرا في المغرب، للبحث في ملفات الانقسام الحكومي، وإمكانات التوافق على صيغة لتجاوزه، فإن حوارهما تركز على كيفية تقاسم المناصب السياسية السبعة التي نص عليها الاتفاق السياسي المُوقع في الصخيرات (2015) وهي حاكم المصرف المركزي ورئيس ديوان المحاسبة ورئيس جهاز الرقابة الإدارية ورئيس هيئة مكافحة الفساد، بالإضافة لرئيس المفوضية العليا للانتخابات وأعضائها ورئيس المحكمة العليا والنائب العام. وفي الاجتماع الأخير الذي عقداه في جنيف حال الاختلاف على بند مهم في مشروع الدستور دون التفاهم، وهو البند المتعلق برفض ترشيح مزدوجي الجنسية للانتخابات المقبلة، ما يحرم شخصا مثل خليفة حفتر (حليف صالح) من فرصة الترشُح. وبناء على ذلك يعتقد المنصوري أن الاستقرار في ليبيا لن يكون إلا باستكمال المسار التأسيسي، والاستفتاء على مشروع الدستور واعتبار من يقف ضد ذلك، معرقلاً للعملية السياسية. والأرجح أن الاتصالات الجارية منذ مطلع ايلول/سبتمبر، ومنها الحراك المصري التركي القطري الليبي، قد تؤدي إلى تدوير الزوايا، ولربما تعديل شروط الترشح للرئاسة، لكن ماذا سيكون المقابل؟

تعليقات