رشيد خشـــانة – معايير الكفاءة ونظافة اليدين والاقتدار لم تعد هي الشروط اللازمة لتولي مسؤوليات رفيعة في الدولة، وإنما الأساس هو الولاء، في إطار عملية تقاسم الكعكة بين أعداء الأمس.

لا تحمل الاجتماعات بين رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح في تركيا، أي جديد، لأنها لا تختلف عن اللقاءات السياحية السابقة، على ضفاف بحيرة ليمان في جنيف، أو على ضفاف الأطلسي في منتجع بوزنيقة المغربي، أو قبل ذلك على شاطئ النهر الخالد في القاهرة. ومع كل جولة من تلك الجولات نشهد محاولات لإيهام الرأي العام الليبي بأن «الزعيمين» مُنهمكان في البحث عن حلول لإسعاد شعبهما وإبعاد شبح الحرب عنه. لكن الواقع غير ذلك تماما، فلو كان صحيحا أنهما ناقشا، على مدى أيام، قضايا جادة تؤدي إلى الخروج من الأزمة لكشفا ذلك لوسائل الإعلام. وهنا يبرز السؤال التالي: هناك مسعى دائمٌ لإبعاد الاجتماعات وما يدور فيها عن مسامع الليبيين، مع أن الأمر يتعلق بمصيرهم الجماعي، فلماذا ترتدي هذه اللقاءات طابع السرية؟ وما هي السلطة التي كلفت السيدين المشري وصالح بمناقشة مستقبل ليبيا وتقرير مصيرها بمفردهما، من دون تفويض شعبي يُكلفهما بذلك؟
لقد بات واضحا أن مجلسي الدولة والنواب، وهما المسؤولان عن قوانين الانتخابات، يرفضان سن قوانين انتخابية تُخرِجهما من المشهد، وهذا هو السبب الحقيقي لتأخير إجراء الانتخابات في ليبيا منذ عام 2014.
والليبيون يعرفون أن المشري وصالح يغتصبان مؤسسات الدولة، وخاصة السلطتين اللتين تتربعان على عرشهما: مجلس النواب والأعلى للدولة، فمجلس النواب فاقدٌ للشرعية لأن أعضاءه (200 عضو) انتُخبوا في 2014 ليبقى المجلس أربع سنوات، يُشرف خلالها على الانتقال إلى دستور جديد، لكن الجميع، وفي مقدمهم رئيس المجلس عقيلة صالح (78 عاما) تشبثوا بتلابيب المجلس، حتى بعدما صار منتهي الصلاحية. أما رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري (53 عاما) فبات يقود مجلسا مؤلفا من بقايا «المؤتمر الوطني العام» (برلمان انتقالي) الذي انتهت صلاحيته مع إجراء انتخابات مجلس النواب في 2014.
من هنا فإن أعضاء المجلسين لا يُريدون إنهاء المرحلة الانتقالية، لأن نهايتها تعني انقطاع الأمل بعودتهم إلى ركاب السلطة، بكل ما تمنحه من امتيازات ونفوذ اجتماعي وسياسي. وسيبقى المتحاورون في جنيف والقاهرة وبوزنيقة وتركيا، يُنهون جولة من المحادثات ليبدأوا جولة جديدة، في أجواء من التكتم الشديد، بتعلة أننا ما زلنا في المرحلة الانتقالية. أفليس الرأي العام الليبي معنيا بفحوى تلك اللقاءات ومُخرجاتها، وبالتالي من حقه أن يعرف أدق تفاصيلها؟ وزيادة على ذلك، يطرح الذين أبدوا، مباشرة أو مداورة، رغبتهم بالترشُح للانتخابات الرئاسية، مشاكل قانونية وسياسية معقدة. فاللواء المتقاعد خليفة حفتر (80 عاما) الذي يُسيطر عسكريا على المنطقة الشرقية، أدانته محكمة أمريكية في فرجينيا، غيابيا، في نهاية تموز/يوليو الماضي، مُحملة إياه المسؤولية التامة عن جرائم قتل وتعذيب ضد أبناء الشعب الليبي.
وتظهر درجة الاستخفاف بعقول الليبيين عندما يُعلن كلٌ من المشري وصالح في المغرب، عزمهما على إنهاء ملف تجديد القائمين على المناصب السيادية قبل نهاية العام الحالي، كما تعهدا باستئناف الحوار من أجل القيام بما يلزم لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، مُطابقة للمعايير العالمية، ووفق تشريعات واضحة يتم التوافق عليها بينهما. وهذا إقرارٌ خطرٌ بمسؤوليتهما عن تأخير المسار الانتقالي، لكن الأخطر منه أن يتفقا على تسمية من سيشغلون المناصب السيادية، لأن الأمر بات عبارة عن بورصة مواقع قيادية يسعى كل طرف إلى الخروج منها بأقصى ما يستطيع من الغنائم. وعليه فإن معايير الكفاءة ونظافة اليدين والاقتدار لم تعد هي الشروط اللازمة لتولي مسؤوليات رفيعة في الدولة، وإنما الأساس هو الولاء، في إطار عملية تقاسم الكعكة بين أعداء الأمس.
هذا التعاطي مع الأزمة على أساس المُحاصصة ومنطق الغنيمة هو السائد حتى اليوم، وهو المحور الحقيقي للخلافات بين الفريقين المتصارعين، بينما يزعم عقيلة والمشري أنهما يناقشان «الخلافات حول القاعدة الدستورية للانتخابات» والحال أن الجميع يعلم أن النسخة النهائية من مشروع الدستور جاهزة منذ العام 2017. وإذا كان هناك من ملف معقد ومتفجر فهو التعيينات على رأس مؤسسات الدولة، لأنها فرصة للفساد والاستيلاء على المال العام.
وتسود الريبة والنفاق العلاقات بين الحليفين السابقين صالح وحفتر، إذ أن الأخير يتوجس خيفة من عقيلة صالح، ولا يستبعد تحالفه مع المشري لإخراجه (حفتر) من اللعبة تماما، عبر قاعدة دستورية لا تمنح له فرصة الترشح للرئاسة، حسب ما ذكر تقرير تركي. وحذر التقرير من أن حفتر سيمارس ضغوطا على مجلس النواب للحؤول دون إجراء أي انتخابات لا يكون هو من المرشحين البارزين إليها. ولن يتسنى له الترشح إلا إذا تخلى عن جنسيته الأمريكية، وهو لن يقبل بذلك أبدا. وما يُعطل هذا المسار هو الخلاف على السماح لمزدوجي الجنسية والعسكريين بالترشُح. وهناك حلول كثيرة لتجاوز هذه العقبة، من بينها إخراج هذه المسألة من مشروع الدستور وتضمينها، بهذه الصيغة أو بغيرها، في القانون الانتخابي، لأن المسألة ذات طابع قانوني أكثر منه دستوري.
وطالما أن إقرار مشروع الدستور ينبغي أن يمر بتصديق البرلمان ثم بموافقة المجلس الأعلى للدولة، فإن التلاعب بالأصوات وعقد تحالفات مُريبة سيكونان مسيطرين على الأجواء. وأبدت المستشارة الأممية السابقة ستيفاني وليامز تعجُبها من نهم غالبية النخب الليبية إلى المال العام وحجم التحويلات الشخصية إلى الخارج، وقالت في تقرير حديث نشره معهد بروكينغز «إن خريطة الطريق الانتخابية تعدُ جزءًا لا يتجزأ من دعم مطلب الشعب الليبي المشروع لإجراء انتخابات وطنية، وكبح شهية النخبة الحاكمة، التي لا تشبع، للسلطة التنفيذية المؤقتة».

عودة إلى النظام الاستبدادي؟

وفي السياق حذرت المستشارة السابقة وليامز من احتمالات العودة إلى النظام الاستبدادي، عن طريق أحد المرشحين الرئاسيين، وفي مقدم هؤلاء سيف الإسلام نجل معمر القذافي، الذي يعتبر أنصار النظام السابق أنه الكفيل بإعادة السبتمبريين أو القذافيين إلى الحكم في ليبيا، حيث ما زال شبح معمر القذافي يطارد البلد الذي حكمه لمدة 42 عامًا، مثلما يتضح من الدخول المفاجئ لسيف الإسلام القذافي (50 عاما) إلى حلبة السباق الرئاسي في العام الماضي.
والمُلاحظ أن وليامز، التي كانت مُلزمة بواجب التحفظ قبل مغادرة منصبها السابق، أشارت بالاسم إلى حفتر والدبيبة بصفتهما عطلا المسار الانتخابي، فحفتر «قام بمحاولة انقلاب في نيسان/ابريل 2019 (الهجوم العسكري على طرابلس) ما تسبب بمقتل عدد كبير من المدنيين» على ما قالت. أما الدبيبة فاعتبرت وليامز أنه «تصرف بسوء نية» عندما انتهك التعهد الذي قطعه، خلال ملتقى الحوار السياسي، في شباط/فبراير 2021 بأنه لن يترشح للرئاسة. وتُخبرنا وليامز أن إنتاج الأساس الدستوري للانتخابات توقف في الآونة الخيرة بسبب إصرار حفتر على بند يسمح للمرشحين بالاحتفاظ بجنسية ثانية (في حالته الأمريكية).
واللافت أن وليامز اقترحت في تقريرها فرض عقوبات أو التهديد بفرضها على الليبيين المتورطين في الفساد ومنتهكي حقوق الإنسان، ونبهت إلى أن إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي ومجموعة من الدول يمتلكون تشريعات يمكن اعتمادها لفرض عقوبات اقتصادية ومنع دخول مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان والفساد.
بهذا المعنى يمكن القول إن المستفيدين من تمديد المرحلة الانتقالية، يسعون لاختلاق الأعذار الواهية لإرجاء الانتخابات سنة بعد أخرى، كي يستمروا في مناصبهم. لكن الموقفين الأمريكي والأوروبي يُصران على إنهاء المراحل الانتقالية والمرور فورا إلى الانتخابات. وتعتمد أمريكا في موقفها على تصريحات رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، عماد السايح، الذي ما انفك يؤكد أن المفوضية جاهزة بنسبة 98 في المئة للإشراف على العملية الانتخابية. وأكد الأمريكيون في مناسبات عدة، أن السبيل الوحيد للتقدم بالعملية السياسية يمرُ من خلال خارطة طريق لانتخابات ذات مصداقية، تمكن المواطنين من اختيار قادتهم بأنفسهم. وبحسب المتحدثة الإقليمية باسم الخارجية الأمريكية، تشجع واشنطن الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة عبد الله باثيلي، على إنضاج الشروط اللازمة لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية، «في أقرب وقت ممكن». وتؤكد أمريكا في الوقت نفسه على ضرورة إعطاء الأولوية للجهود المبذولة من أجل ضمان الشفافية والمساءلة في مؤسسات الدولة الليبية. وتتطابق خطة عمل الممثل الخاص باثيلي مع الموقف الأمريكي، الذي يرى ضرورة الانسحاب الفوري لجميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.

جاء ليتأكد بنفسه

أكثر من ذلك زار الموفد الأمريكي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند مقر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، في طرابلس، مُستفسرا من رئيسها الدكتور عماد السايح عن مدى جهوزية المفوضية لإجراء الانتخابات، بحسب ما جاء في بيان رسمي بعد الاجتماع. وأكد البيان بوضوح أن الدبلوماسي الأمريكي أتى ليطمئن على «الاستعدادات الفنية للمفوضية». ويدلُ هذا الحرص الخاص على أن واشنطن تُتابع الأوضاع عن كثب، وأنها تُظهر اهتماما بجميع التفاصيل.
بالمقابل لوحظ أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي لم يبذل أي جهد، أقله في الظاهر، لتحريك المسار السياسي وحلحلة الأزمة، استنادا على ما يُخوله له منصبه. وهذا ما حفز رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم عبد الله باثيلي على الاجتماع مع المنفي ليحضه على «الاستفادة من تأثيره في تيسير التواصل بين الأطراف لتجاوز الانقسام السياسي». وتجدر الاشارة هنا إلى أن باثيلي زار المنفي وناقش معه ترتيبات عقد لقاء جامع لكل الأطراف المعنية بالقضية الليبية، برعاية الاتحاد الأفريقي وبعثة الأمم المتحدة. ومنذ سنوات لم تعد مثل هذه العبارات تتردد على الأفواه في طرابلس. لذا ينبغي أن يكون اللقاءُ الجامعُ هذا مختلفا عن اللقاء الذي كان الموفد الأممي الأسبق غسان سلامة يسعى، على مدى عام بأكمله، لعقده في مدينة غدامس (جنوب غرب) في 18-19 نيسان/ابريل 2019 بحضور ألف شخصية، قبل أن يُجهضه خليفة حفتر، بإطلاق حملة عسكرية في الرابع من الشهر نفسه، لاحتلال العاصمة. وشارك في الإعداد لذلك اللقاء 6000 ليبي، بعد عقد 77 اجتماعا أنتجت 80 ألف ورقة، لُخصت في 22 ورقة. وشملت الأوراق كل المجالات مع ملخصاتها. وبناء على ذلك، يمكن للموفد الأممي الخاص باثيلي أن ينطلق في محاولة جديدة، لجمع الليبيين في لقاء توحيدي لا يُقصى منه أحدٌ إلا من أقصى نفسه ورفض المشاركة في هذا المسار الجامع.

تعليقات