يقارب محمد النعّاس في روايته «خبز على طاولة الخال ميلاد» الأفكار الرازحة على المجتمع الليبي والعربي، وتستمرّ موجهة ومؤثرة بشكل عام في آلية التعامل والاختيار لكل ما هو نسوي، ويعيد طرح موضوعات مثل غشاء البكارة والطهارة، ويؤسس من خلال وجهات نظر متباينة مفهوما خاصا للزنا، ونتيجة لذلك تتغيّر دلالة كثير من المفاهيم، وتتحوّل إلى مفاهيم رجراجة، فما يحدد الزنا في منطق بعض الآراء الواردة في نص الرواية ليس تحقق الزواج أو عدمه، وإنما الفيصل يتمثل في وجود المحبة والرغبة من الطرفين أو عدمه داخل إطار الزواج أو خارجه.
فالرواية معنية برصد التحولات التي أصابت المجتمع الليبي في فترة زمنية محددة، من مجتمع قائم على التعدد الديني والثقافي في سياق يحتم التنوع الكوزموبوليتاني إلى مجتمع الثقافة الواحدة واليقين بالنصاعة، ولهذا تبدو العودة من المدينة إلى القرية إشارة أولى لفعل الارتداد والتمحور حول الثابت، يؤيد ذلك رحيل الإيطاليين والقوقازيين والمالطيين إلى أوطانهم، وهجرة اليهودي المنتمي إلى طرابلس إلى جربة التونسية.
فالرواية تخبرنا في جزئيات خافتة أن الفيلم عن عبد السلام العبسي، ولكن المحكي كله يرتبط بالاعتراف الخاص بميلاد من خلال فعل التذكر وإعادة التأويل، وأن في ذلك إشارة إلى التوحد والتطابق، وإن اختلفت النزوعات والتوجهات، لكي تقدم لنا هوية متورّطة بالثبات، متجذرة في تقليديتها، عيناها مفتوحتان على الخلف، ومشدودتان إلى عقد متداخلة ومتأصلة في جذورها نحو الثبات والماضي. قد يبدو للبعض أن الرواية تمثل دعوة نحو الحداثة نظرا لسيولة الجندر وتحول تحديده من البيولوجي المرتبط بالثبات والتعيين إلى الثقافي المرتبط بالدور والأداء الاجتماعي والفعلي، ولكنها عند التأمل الدقيق، وبعد مشهد النهاية تصبح أكثر دلالة على فاعلية التقاليد والنظرة الثابتة والمفاهيم الأبوية بأنساقها العديدة التي تظلل حياة المجتمع العربي وحياة أفراده.

سيولة الجندر
بين البيولوجي والثقافي

يكتشف القارئ لحظة قراءة الرواية أن هناك حالة من التحرّر من المحددات الجنسية والجندرية، من خلال صورة خارجة عن حدود التنميط الجاهز الموروث داخل الثقافة العربية لصورة الرجل والمرأة، وما يحيط بها من سمات ووظائف وأدوار، فهناك من خلال شخصيتي ميلاد وزينب تحوّل وتبادل في ممارسات الذكر والأنثى. هناك مركزية للأنثى من البداية، ومن خلال تشكيل هيمنة دالة، وتحوّل في المهام، تبدو زينب من خلال قيامها بالعمل وجلب المال، وكأنها محور الحركة ومساحة لتأطير التوجهات الفعلية لحياة السارد ميلاد.
ما تلحّ عليه هذه الرواية يتمثل في فكرة الجنس، ليس بوصفها توزيعا بيولوجيا، ولكن بوصفها سيولة ترتبط بالمهام ضد ما هو مستقرّ في العقلية العربية. الرواية تجرح من خلال سمات تمّ توجيها للبطل ميلاد وزوجته زينب توجيها خاصا، فهذه المهام ظلت في إطار توزعها الثابت واقفة عند حدود نمط محدد، بالرغم من خروج المرأة العربية للعمل. وإذا كانت المرأة في احتلالها هذا الحيز في تأطير التوجه والحركة قد شكلت ووجهت توجيها خاصا، فإن التوجيه الخاص بشخصية السارد ميلاد أخذا أبعادا أكثر عمقا.
تمثل مرتكزات التوجيه في النص الروائي توجهات أساسية في الوقت ذاته لتأويل الحالة بداية من النشأة داخل إطار مملوء بالوجود النسوي، فنشأة البطل ميلاد داخل منزل فيه الأم وأربع فتيات يطلع على دواخلهن وأزمتهن النفسية، ويشاركهن الحناء على أصابعه، وارتداء الملابس الأنثوية، بالإضافة إلى غلظة فاقعة في نمط الأب في كسر هذا التوجه في محاولته إعادة التكوين والتشكيل لولده داخل خندق العرف الموروث: (سألت الله ما الذي فعلته حتى تعاملني الحياة بهذه الطريقة، ألانني كنت ولدا وحيدا لأخوات أربع، ولأني تعلمت ضفر شعر أخواتي وأنا في العاشرة، وصناعة الحلوى النسائية في الثانية عشرة… وصنعت الخبز… وتعلمت الطبخ منذ طفولتي؟ ربما لأني رضيت أن أغسل ملابس زوجتي، وأرتبها وأكويها… ربما لأنني تركت فراش الزوجية واللعب منذ أن يئسنا من إنجاب الأطفال).
تكرار (ربما) في النص السابق – حيث يحمل بعض مناحي تأويل الحالة- يكشف عن مشروعية ما ألمحنا إليه سابقا من انفتاح التأويل إلى مناح عديدة، ولكن الأكثر أهمية في هذه الجزئية يتمثل في وجود وطريقة الأب في إصلاح الخلل من وجهة نظره، الأب بمعناه البيولوجي والثقافي، فالأب بحدوده البيولوجية يمثل سلطة النسق الموروث، في محافظته على حدود النمط في محاربة أي خروج بشدة وغلظة وقسوة.
العناصر الخاصة بنمط الثبات في مقابل السيولة الجندرية عديدة، بداية من الأب أو العبسي أو صالحة، ويمكن أن نضع في إطاره داخل السياق ذاته، وإن كانت بتجل مختلف شخصية (المادونا) في خدمته العسكرية، حيث دأب على التربص به، وتعذيبه بكل الوسائل المتاحة. ولكن شخصية زينب تأتي على الوجه المقابل كاشفة عن سيولة مباينة، تتمثل في وجودها في إطار خاص يرتبط بالأدوار والوظائف التي تقوم بها، فأدوارها منزاحة عن النمط القديم، فتترك لزوجها القيام بأعمال البيت وثيقة الصلة بها، وتتفرغ للعمل ومشكلاتها مع مدير المؤسسة، وتشكل مساحة من الحضور المغاير، من خلال تشكيلها لبعض المفاهيم وفق تجلّ جديد، متأثرة في ذلك السياق بنزوعات عمها الفنان التي نشأت في كنفه، نتيجة لعمله فنّانا تشكيليا وسفرياته إلى بلاد أوربية كثيرة.
ففي الرواية نحن أمام أنماط تشكل من خلال المحكي – سردا وحوارا – تشكيلات أيديولوجية دالة، فهناك عمّ زينب الفنّان التشكيلي الذي يأتي بوصفه منظرّا لقيم التحرر مشكلا سردية مغيبة للنمط الذي يمثله، ولكنه بالرغم من غيابه لا يخلو من فاعلية وتأثير في تأسيس السيولة الجندرية لدى ابنة أخيه، وهناك العبسي الذي يمثل قيم الارتكان إلى التقاليد والثبات، ويشكل سطوة نموذج متخيل لدى ميلاد، بالدرجة أو الحدة ذاتها التي تحتلها زينب في تشكيل أفق البطل وتوجهه، وهناك أيضا النمط الحداثي الذي يكتفي بانزوائه مع النمط التقليدي المباين، يتجلّى ذلك في شخصية المدام مريم، في ارتفاعها من حيث مكان السكن الذي يفضي إلى التجذر في طبقة اجتماعية خاصة، تستطيع أن تعيش مكتفية بذاتها دون نزال مع القيم الموروثة، وفي حوارها مع أم ميلاد، وتفهمها للحظة الحضارية التي تعيش فيها الأم بأعرافها وتقاليدها.

الحداثة الزائفة:
الانفلات من تقييدات المثل

بالاتكاء على القديم واستمراره، وهامشية الجديد وصراعه المستمر، وعلى نمطي القرية والمدينة يؤسس محمد النعّاس في روايته ثنائية تتعلق بنمو العقلية العربية نحو التحديث، ومعوقات ذلك التحديث، وإشكالياته التي تفرغه من مضمونه الحقيقي، ليتحول في النهاية إلى تحديث شكلي مرهون بالبلاغة والخطابة ومخالفة النسق دون صناعة أفق حيوي يكشف عن جذرية التحوّل في مباينة الأنساق المتجذرة حتى داخل الأطراف التي تبدو أكثر حداثة وتطرفا.
ترتبط الرواية بالحداثة المشوّهة، حيث يتمّ تسريبها في النص الروائي، داخل سياق أو عقلية مشدودة إلى الخلف، يؤيد ذلك أن محاولة الشخصيات التي تنضوي في ذلك الإطار داخل العمل الروائي يأتي لهاثها أو خروجها مسيجا بأنماط الارتداد الفاعلة في التثبيت والتقييد. ففي كل فصل في الرواية – وأحيانا داخل المتن – هناك مثل يشكل مفتتحا نصيا يؤسس للمدى المغلق، والمثل بالرغم من كونه بنية مكتنزة، كاشف عن عمق متأصل ضارب بجذوره في روح المجتمع وثقافته، فيأتي في كل فصل موجها للحركة، وفاعلا على امتداد النسق، ضالعا في تهميش وتغييب كل ما يخالفه ويباينه بسطوة دامغة.
إن نظرة فاحصة إلى الشخصيات التي تمثل جانب الخروج على النمط المؤسس والأعراف، ومعاينة توجهاتها والمآلات التي انتهت إليها تثبت مشروعية هذا التوجه. فهمهمات الشك تنحو باتجاه عم زينب الفنان التشكيلي، حتى في ظل إسدال مفاهيمه الخاصة للأفكار التجريدية التي يوسع في إطارها ودلالتها، وأثرت على تكوين ابنة أخيه في قولها (الزنا محرّم فقط مع من لا تحب)، وإطار سلوكه العملي الكاشف عن توجهه في التعامل مع المرأة، والإيمان بحريتها الجنسية بشكل عام، في جزئيات خافتة، تكشف عن عقليته الارتكاسية والرجعية، في إشارة زينب في حديثها عنه مع ميلاد إلى جنونه إذا عرف أنها تتأمل لوحاته العارية، أو جنونه إذا أدرك أنها معه الآن يمارسان الجنس بشقته.
أما مع المدام أو مريم، فالقارئ أمام حالة حداثية لا تخلو من خصوصية، لأنها مكتفية بوضعها دون نزال أو معاظلة مع النمط المقابل، فهي متكيفة مع وجهة نظره، ولا يزعجها نقد الآخر أو رؤيته لسلوكها، وكأن في ذلك إيمانا بعدم جدوى الصراع، فبعد سفرها مع زوجها وإقامتها مع زوجها لفترة في باريس تعود صانعة دائرة ضيقة حولها، صانعة نوعا من العزلة. فقد تولدت لديها رؤية وإدراك مختلفان، ولكنها رؤية ليست معنية بالنهوض بالآخر أو تثويره أو تغييره للتبرم على الأعراف أو التقاليد. هي فقط اختزنت تأثرها، وتشربت مبادئ الحرية في أسفارها العديدة، وهذا النمط الذاتي يقلّ أثره وفاعليته، لأنه ليس منفتحا على الآخر، ولا شيء يشغل اهتمامها خارج حدود الذات.
في ظل حدود التلقي السابق يمكن أن نعاين الشخصيات بشكل مختلف، خاصة إذا وضعناها في إطار دوائر أكبر من تجليها داخل سياقها النصي، فتصبح الرواية في إطارها العام معنية برصد حالات التطور أو الارتكاس والخنوع التي تصيب المجتمعات في لحظات أو سياقات حضارية متوالية، خاصة في تلك المجتمعات التي يتولد لديها توجهات حادة في التباين بين فترة وأخرى، أو انقسامات متضادة في الانتماء، فيحدث هناك ذلك الاشتباه في الرؤية، ومع كل توجه من هذه التوجهات والانتماءات المتباينة يحدث هناك تزاحم وتوزع مما يوقف الحركة للبدء من جديد، فمشهد القتل في نهاية العمل الذي يحمل في طياته القضاء على أية بادرة حركة نحو التحديث ليست إلا حالة من حالات الوقوف والتمزق المتكررة، والارتهان داخل فراغ مطبق.
فالشخصيات تتشابك مع رموز ودلالات، وتصبح ظلا لسياجات أيديولوجية، مشدودة لأفق التجديد والتحديث الموزّع في كل لحظة حضارية إلى اتجاهين، يعرقل كل واحد منهما في الاخر، ويحاول تهشيم منطلقاته، فيكون الناتج مشوّها ليس خالصا للقديم، وليس متوجها نحو التحديث والتغيير والنمو دون معوقات تجعل حركته ثابتة ومرتكزة على سراب، وتصبح الرواية والحال تلك ليست إلا محاولة إعادة ارتباط بالعالم وفق توجه إدراكي ينتمي إلى لحظته الحضارية الخاصة التي تحمل في طيّاتها توجهات نحو التحديث، ولكنها تظل منكفئة على ما فيها من تقاليد وأعراف تعرقل حركتها للأمام.

تعليقات