رشيد خشـــانة – ارتدت زيارة الوفد التونسي إلى ليبيا طابعا اقتصاديا، بينما المطلوب في هذه المرحلة، وضع إطار لعلاقات استراتيجية تستمر حتى بعد تغيُر الحكومات هنا أو هناك.

على الرغم من تأجيل زيارة رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن إلى ليبيا، وقع وزراء تونسيون مع نظرائهم الليبيين على عدة اتفاقات مهمة، في ختام زيارة وفد وزاري تونسي لطرابلس. وكان رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة ينتظر زيارة نظيرته إلى طرابلس كي يزور هو تونس لاحقا، على رأس وفد رفيع المستوى، حسب ما صرح به لإذاعة تونسية خاصة. وكان من الممكن إرجاء زيارة الوفد الوزاري إلى ما بعد القمة الفرنكفونية التي تستضيفها تونس الآن، لأن أجواء العلاقات الثنائية تسمح بالاتفاق على مشاريع جديدة، وإحياء أخرى قديمة لم يُكتب لها أن تُبصر النور. وفي هذا الإطار تحققت بعض الخطى من خلال توقيع وزيرة التجارة التونسية ونظيرها الليبي على اتفاق لتشكيل فريق عمل مشترك لدراسة إنشاء منطقة اقتصادية حدودية مشتركة بين البلدين في منطقة رأس اجدير، أحد المعبرين الرئيسيين بين تونس وليبيا. كما اتفقا على حرية انسياب السلع بين البلدين، وفق ما أعلنت وزارة الاقتصاد والتجارة التونسية عبر صفحتها على «فيسبوك» من دون إعطاء تفاصيل. وشمل اتفاق ثالث منح قرض ليبي للحكومة التونسية بقيمة نصف مليار دولار. وقبل ذلك وقع حاكم مصرف ليبيا المركزي ونظيره التونسي على اتفاق للتعاون في مجالات مشتركة. كما اتفق وزيرا التجارة على تسهيل إجراءات دخول السلع ذات المنشأ الأجنبي إلى ليبيا عبر الموانئ التونسية، بالاضافة لإنشاء خط بحري يربط بين موانئ البلدين.
أتى ذلك في إطار الزيارة التي أداها الوفد الوزاري التونسي إلى طرابلس، وضم وزراء الطاقة والمناجم والتجارة والنقل ورئيس مؤسسة تكرير النفط التونسية (قطاع عام). من هنا ارتدت زيارة الوفد التونسي طابعا اقتصاديا، بينما المطلوب في هذه المرحلة، زيادة على الاتفاقات الاقتصادية، وضع إطار لعلاقات استراتيجية تستمر حتى بعد تغيُر الحكومات هنا أو هناك. وعلى سبيل المثال يُعتبر منحُ تونس قرضا بقيمة نصف مليار دولار حركة مهمة على الصعيد السياسي، يمكن البناء عليها إذ أنها تساهم في تجاوز المُختنق الذي تمرُ فيه تونس حاليا. كما أن مشروع إنشاء منطقة اقتصادية حدودية مشتركة بين البلدين في معبر رأس اجدير، يشكل إذا ما تم، حُلما يعود إلى عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، غير أن السياسة قتلته. وتكمن الأهمية الاستراتيجية والأمنية لهذا المشروع في كونه سيُساعد على انتقال نحو مليون تاجر، ممن يتعاطون حاليا التجارة الموازية والتهريب عبر الحدود، على الانضمام إلى مظلة دافعي الضرائب، وتعاطي التجارة تحت سقف القانون. ويحتاج المُضيُ في تنفيذ هذا المشروع وباقي المشاريع المُتفق عليها، إلى إرادة سياسية وعزم من الحكومتين اللتين تجلسان على كُرسي هزاز، بحكم أوضاعهما غير المستقرة. لذا فإن الاسراع بإقامة المنطقة الحرة سيكون إنجازا سياسيا يُعزز التداخل بين الاقتصادين ويُساهم في المحافظة على الاستقرار والأمن في غرب ليبيا وجنوب تونس على السواء، ويضرب شبكات التهريب.
وبتعبير آخر ستضع المشاريع المتفق عليها الحكومتين أمام اختبار حقيقي، لأن الفرصة سانحة اليوم لقطع مسافة كبيرة في مسار التكامل الاقتصادي والتفاهم السياسي، وهذا غير مضمون مع حكومات الغد. من هنا تأتي مسؤولية الرئيس قيس سعيد، الذي يجمع كل السلطات بين يديه، بما فيها رئاسة الحكومة، في اقتناص هذه الفرصة، كي لا تُهدر مثلما أهدرت ثلاث فرص تاريخية في الماضي. وما يساعد على ذلك أن العلاقات بين البلدين بلغت مستوى من المتانة قلما بلغته العلاقة بين بلدين عربيين، مع تدفق أكثر من مليون زائر ليبي على تونس سنويا.
وبالعودة إلى التاريخ القريب نلحظ أن العلاقات بين تونس وليبيا أبصرت فترات مد وجزر، على مدى نصف قرن، عكستها المناكفات، العلنية أحيانا، بين الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة والعقيد معمر القذافي. لكن البراغماتية دفعت الرجلين إلى التقارب، لاسيما عندما حلت بتونس أزمة اقتصادية صعبة في العام 1969 فبدت ليبيا، في مطلع السبعينات، بوابة الدعم الوحيدة المُتاحة وسط أوضاع دولية وإقليمية غير مواتية، بعد حرب أكتوبر العربية الإسرائيلية.
على هذه الخلفية خطط القذافي لإعلان وحدة سياسية بين تونس وليبيا، ورتب وزير الخارجية التونسي محمد المصمودي قمة على انفراد بين الرجلين في جزيرة جربة يوم 12 كانون الثاني/يناير 1974 انتهت بالإعلان عن قيام «الجمهورية العربية الإسلامية». غير أن دولة الوحدة لم تستمر سوى ثمان وأربعين ساعة، ثم انفضت في أجواء مُلبدة بالخلافات، تطورت إلى أسوأ أزمة في العلاقات الثنائية.
كان الدافعُ إلى تلك الخطوة اليأس الذي أصاب القذافي بعد إخفاق المحاولات الوحدوية العربية، خصوصا مع الرئيس المصري أنور السادات فاتجه غربا إلى تونس، مع أنه كان يُدرك تباعد الرؤى العميق بينه وبين بورقيبة، في هذا الملف تحديدا. إلا أنه عرف كيف يُغوي بورقيبة، فتنازل له عن رئاسة دولة الوحدة، لكي يضمن موافقته على المشروع. وأدرك بورقيبة أيضا مرارة مُخاطبه الذي نفض يديه من أهل المشرق، في أعقاب فشل مشروع «اتحاد الجمهوريات العربية» (17 نيسان/ابريل 1971). ومن هنا يمكن اعتبار تجاوب بورقيبة مع عرض القذافي الوحدوي، وسيلة لإبعاده عن مصر والمشرق عموما، وربطه بالقطار المغاربي، المُعطل لامحالة. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن تراجع بورقيبة عن الوحدة لم يكن مبنيا على استنقاص من الليبيين، مثلما يُلمح إلى ذلك البعض، ففي جميع المناسبات التي تحدث فيها عن ليبيا كان يذكر أهل البلد بكل خير، لأنه لم ينس السند الذي لقيه منهم في صبراتة وطرابلس ومصراتة وبنغازي، لدى عبوره ليبيا خلسة مُتجها إلى مصر في 1946.
مع ذلك أجهضت التجربة على أيدي الدولة العميقة في تونس، التي كانت ضد الدعوات الوحدوية والمشروع العروبي عموما. وأدى إلغاء الوحدة إلى تدهور كبير في العلاقات الثنائية شمل طرد العمال التونسيين من ليبيا، في وقت كانت نسبة البطالة في تزايُد، والاقتصاد التونسي في حاجة إلى سوق في حجم السوق الليبية لترويج المنتوجات الصناعية والزراعية، والتقليل من حجم المديونية. هكذا ضاعت فرصة السير نحو التكامل بخطوات تراكمية، في قطاعات محددة، ووفقا لمصالح متبادلة يكسب منها الطرفان معا. لا بل ارتدت العلاقات خطوات كبيرة إلى الوراء من خلال الحملات الاعلامية المتبادلة القائمة على الشتائم والحرب الديبلوماسية الضارية بين الحكومتين.

انتكاسة جديدة

في أعقاب عملية الاستيلاء على مدينة قفصة (جنوب) على أيدي كومندوس أتى من ليبيا عبر الجزائر في كانون الثاني/يناير 1980 انتكست العلاقات الثنائية كما لم تنتكس من قبل. وباتت ليبيا العدو الأول للمسؤولين التونسيين، والعكس صحيح. غير أن مرض الوزير الأول الهادي نويرة واضطراره للتخلي عن منصبه، وتسمية محمد مزالي خلفا له، حفزا الليبيين على السعي للمصالحة وإعادة العلاقات المقطوعة. وأرسل القذافي وزير الخارجية الراحل علي عبد السلام التريكي إلى تونس، في العام التالي، تمهيدا لزيارة القذافي نفسه لتونس. ولاحت فرصة تقارب جديد كانت ستُعطي دفعا للعلاقات الثنائية، لو سارت الأمور بصفة مُتدرجة، ووُضعت أهداف قابلة للتحقيق في آجال معقولة. وفي غياب تلك الرؤية، تزعزعت الثقة مجددا بعد توقيع الرئيس بورقيبة والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد والموريتاني معاوية ولد طايع على معاهدة أطلق عليها اسم «معاهدة الأخوة والوفاق» (1983). وشعر المغرب وليبيا بأنهما أقصيا من المعاهدة، بل واعتبر البعض في البلدين أنها تشكل محورا إقليميا موجها ضدهما. وسرعان ما توصلا إلى معاهدة ثنائية مضادة أطلقا عليها اسم «معاهدة وجدة» في آب/اغسطس 1984 ما كرس سياسة المحاور في المنطقة المغاربية. وانتقلت العلاقات التونسية الليبية في تلك الأجواء إلى مرحلة جديدة من التوتر، لم تلبث أن استحالت إلى أزمة شاملة، أسوة بأزمتي اتفاق جربة وعملية قفصة، استمرت حوالي ثلاث سنوات.
وما أن استولى الجنرال زين العابدين بن علي على الحكم، بعد الإطاحة بالحبيب بورقيبة حتى رحب العقيد القذافي وأركان حكمه بتلك العملية وسارعوا إلى معاودة ربط العلاقات الثنائية مع تونس. ويمكن القول إن إعلان بن علي والقذافي بدء الاستثمار المشترك لمنطقة مساحتها 3000 كيلومتر مربع في حقل البوري النفطي البحري، أنهى أحد أبرز الخلافات بين البلدين منذ بدء الثمانينات. ويقع حقل البوري داخل الجرف القاري للبلدين على طول خط الحدود مع تونس.
وأتى اتفاق الحكومتين على الاستثمار المشترك للحقل في أعقاب القرار الذي اتخذته محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي احتكم إليها البلدان، وقد تركت المحكمة لخبراء البلدين مهمة رسم حدود المنطقة المنوي استثمارها استثمارا مشتركا.
ولم تستقرَ العلاقات بين ليبيا وتونس إلا عندما تولى الرئيس الراحل بن علي منصب الرئاسة في العام 1987. وكان مُتاحا بعد ربع قرن من الاستقرار في العلاقات الثنائية، إيجاد أرضية مناسبة لتكريس التكامل الاقتصادي بين البلدين، لكن لم يكن هذا هاجس زعيمين يتحدران من المؤسسة العسكرية (القذافي وبن علي). وأظهر احتضان التونسيين أكثر من مليون لاجئ ليبي غداة الانتفاضة التي أطاحت بالعقيد القذافي العام 2011 أن الأرضية الشعبية مُمهدة لخطوات أكبر وأشمل. غير أن الفوضى السائدة في ليبيا، منذ ذلك التاريخ، وغياب الدولة، تسببا بإرجاء غالبية المشاريع المشتركة مع دول الجوار. لكن ليبيا بدأت تتعافى حاليا، وإن بخطوات وئيدة. ويمكن للبلدين أن يتعاونا بطريقة تؤمن فرص عمل لنحو مليون تونسي، غالبيتهم يعيشون في الجنوب، ممن يتعاطون التجارة الموازية. بهذا المعنى يمكن أن تكون الزيارة المُرتقبة لبودن إلى طرابلس وزيارة الدبيبة المنتظرة إلى تونس فرصة لبدء مسار جديد، من شأنه التخفيف من الاختناقات الاقتصادية والاجتماعية هنا وهناك، وضرب شبكات التهريب ودعم الاقتصاد المُنتج في البلدين.

تعليقات