رشيد خشــانة – مبادرة سياسية جديدة، تقودها 120 شخصية ليبية، من مشارب فكرية وآفاق سياسية مختلفة، عبروا عن رفضهم الشديد لاستمرار الوضع الراهن.

العبارة الأكثر تداولا في خطابات المسؤولين السياسيين الليبيين هذه الأيام، هي المصالحة الوطنية، واستطرادا إيجاد حل توافقي للصراع الدائر منذ العام 2014. وتتبنى هذا الموقف أيضا الأطراف الخارجية المتداخلة في الملف الليبي، إذ جدّدت الجزائر على لسان رئيسها، دعوتها لإيجاد تسوية للأزمة الليبية في إطار حل توافقي ليبي ليبي، وإنجاز استحقاق المصالحة الوطنية الشاملة، بما يؤدي إلى تنظيم الانتخابات، «التي ستمكن الشعب الليبي من اختيار ممثليه على مستوى المؤسسات السياسية». أما في الداخل فكانت المصالحة وما يتبعها من ضرورة عقد مؤتمر جامع، الملف الرئيسي الذي ناقشه عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني، قبل أيام مع ممثلي المكونات الاجتماعية في العاصمة طرابلس. وأفيد أن المجتمعين ناقشوا مسألة إنهاء المراحل الانتقالية، التي أربكت المشهد السياسي، على ما جاء في بيان للمجلس الرئاسي. لا بل تطرقت المناقشات إلى محاور المؤتمر الجامع للمصالحة، الذي لم يُحدد ميقاته.
كما أفيد أن الجانبين اتفقا في موضوع الهيكل الإداري للدولة، على إعادة العمل بنظام المحافظات، وعزوا هذا الخيار إلى ما له من «أهمية ومساهمة في استقرار البلد، والابتعاد عن المركزية التي تُعيق بناء الدولة» وفق ما ورد في البيان الرئاسي. ومن طبرق (شرق) حض سفراء ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أيضا على دعم جهود المصالحة. لكن الطريق إلى المؤتمر الوطني الجامع ليست مفروشة بالورود، فقد أكدت المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني وليامز، أن قانون العدالة الانتقالية ما زال قيد التعديل، بينما يستمر عمل بعثة تقصي الحقائق والمحكمة الجنائية الدولية، بالتحقيق في الانتهاكات وجرائم الحرب المحتملة. واتهمت وليامز اللواء المتقاعد خليفة حفتر بأنه كان وراء توقف المسار الدستوري، عندما أمر قواته بالزحف على العاصمة طرابلس في نيسان/ابريل 2019، مُجهضا بذلك المؤتمر الوطني الجامع الذي كان مُقررا عقدُه في غدامس. وتكررت عبارة «المصالحة» على لسان المبعوث الإيطالي الخاص إلى ليبيا، نيكولا أورلاندو، الذي أجرى أخيرا، محادثات مع الأطراف السياسية الليبية، بالتنسيق مع الشركاء الأوروبيين، وخاصة فرنسا وألمانيا. وأكد أورلاندو أن روما تدعم الوصول إلى «توافق سياسي واسع» يضمن لليبيا حكومة يمكن أن تقود إلى انتخابات حرة وشفافة، تُفرز مؤسسات شرعية. وترتدي تصريحات الموفد الإيطالي أهمية خاصة لكون روما هي أبرز حليف للولايات المتحدة في الملف الليبي، وهو ما تسبب لها بعدة احتكاكات مع غريمتها فرنسا، التي تدعم اللواء المتقاعد حفتر، وتتحاشى التعامل مع الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس.
ويقودنا استخدام عبارتي المصالحة والمؤتمر الجامع، إلى الحديث عن مبادرة سياسية جديدة، تقودها 120 شخصية ليبية، من مشارب فكرية وآفاق سياسية مختلفة، بينهم أعضاء في مجلسي النواب والدولة وحقوقيون وبعض القيادات القبلية، الذين عبروا عن رفضهم الشديد لاستمرار الوضع الراهن، الذي لا تستفيد منه سوى «الجهات التي تريد خطف العملية الانتخابية» من دون تسمية تلك الجهات. وتُعتبر هذه المبادرة مقدمة لحراك سيعمل على إرساء خط ثالث يتباين مع خليفة حفتر وحكومة الوحدة الوطنية في آن معا، هدفه الأول، على ما يقول أصحاب المبادرة في بيانهم، «محاولة إنقاذ البلاد من الانزلاق لمخاطر التقسيم». وفي السياق اعتبرت الشخصيات الموقعة على البيان أن الفرصة لم تُعط لليبيين، على امتداد السنوات الثماني الأخيرة لاختيار قياداتهم السياسية، فكانت النتيجة تعاقب خمس حكومات وأربع حروب (داخلية) ذهب ضحيتها عشرة آلاف ليبي، وأكدت أن اتفاقات تقاسم السلطة، سواء في منتجع الصخيرات بالمغرب أم في جنيف، أخفقت في تحقيق الغاية من عقدها. وكان الهدف من وراء تلك الاتفاقات توحيد المؤسسات وإجراء الانتخابات الموعودة. وانطلاقا من هذا الإخفاق، اقترحت الشخصيات الـ120 اعتماد الإعلان الدستوري، الذي وضعه المجلس الوطني الانتقالي، بعد الإطاحة بالنظام السابق في 2011 والذي أُجريت على أساسه انتخابات 2012 إلى جانب اعتماد قانون الانتخابات الرقم 4 لسنة 2012 أيضا، بوصفهما أساسا دستوريا للانتخابات وإطارا قانونيا لها. ولم يكن مستغربا أن الموقعين على المبادرة أكدوا على ضرورة طلب المساعدة الدولية للإشراف على الانتخابات، وذلك بالمعايير المُحددة في ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها في هذا الشأن. ويمكن أن يُفسر ذلك بأن ليبيا مازالت خاضعة لأحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وأظهرت تقارير أممية أن الأوضاع الاجتماعية والتربوية في ليبيا، ما انفكت تتدهور، مُخلفة جيلا محروما من أساسيات التكوين العلمي. كما أظهرت أن المؤسسات الاجتماعية، وخاصة منها التربوية، تعاني من طول الاهمال وغياب الصيانة على مدى السنوات الأخيرة، ما استوجب وضع خطة شاملة لإنشاء 1500 مدرسة جديدة، ستكون بديلا من مدارس الصفيح القائمة حاليا، والتي يُعتبر بقاؤها إلى اليوم وصمة عار في جبين من تداولوا على الحكم، طيلة السنوات العشر الأخيرة. ومع إمساك النائب العام الصديق الصور بملفات فساد عدة، ووضع بعض المشتبه في ضلوعهم بتلك الملفات في السجن الاحتياطي، يتأكد أن الحملة على الفساد ستحمل مفاجآت، وأن رؤوسا أخرى أينعت. إلا أن الملاحقات القضائية ما زالت مقتصرة على صغار الفاسدين، وغالبيتهم موظفون في مصارف تجارية، ولم تشمل رئيس الوزراء وأعضاء حكومته، بالرغم من أن تقارير الرقابة أدانتهم بالأسماء. وآخر ملف كشف النقاب عنه مجلسُ النواب أخيرا، يتعلق بتصرف حكومة الوحدة برئاسة الدبيبة بحصة ليبيا في مجموعة «هيس» الأمريكية، وهي الحصة التي بيعت لمجموعتي «توتال» الفرنسية و«كونكوفليس» الأمريكية. وأفاد المتحدث باسم مجلس النواب، أن المجلس قرر، في الجلسة التي عقدها أخيرا في بنغازي، رفض التخلي عن حصة ليبيا وتكليف اللجنة التشريعية في المجلس، بإعداد مخاطبة للنائب العام، في شأن التصرف بتلك الحصة من أسهم المجموعة الأمريكية، معتبرا ذلك إهدارا للمال العام، خاصة أن هناك قرارا صادرا عن محكمة الزاوية (شمال غرب) يحظر على السلطة التنفيذية إجراء مثل عمليات البيع تلك. إلا أن الدبيبة، الموجود في موقعه الحالي بفضل الاتفاق بين القوى الكبرى المؤثرة في المشهد الليبي، منذ شباط/فبراير الماضي، لا يبدو مُباليا لتلك الاتهامات. وفي سياق ملف الفساد أيضا، لوحظ أن مجلس النواب قرر، في جلسته الثلاثاء قبل الماضي، إقالة علي الحبري من منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي المكلف، وإنهاء عضويته ورئاسته للجنتي إعادة استقرار ببنغازي ودرنة، وسمى المجلس في مكانه مرعي مفتاح رحيل البرعصي. وعلل البرلمان قراره بوجود شبهات فساد وتزوير مستندات ووثائق رسمية والكسب غير المشروع.

استهداف النائب العام

أكثر من ذلك، حذر تقرير جديد السلطات الليبية من أن تنامي الصراعات الداخلية في البلد، ساهم في نمو اقتصادات المخدرات. وأبرز التقرير الصادر عن «المركز الأوروبي لرصد المخدرات ومكافحة الإدمان» أن هذا العمل لا يقتصر على المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، وإنما «يشمل أيضًا بعض الجهات الفاعلة في الدولة والنخب السياسية والتجارية». وأكد المركز في تقريره بعنوان «أسواق المخدرات في سياسة الجوار الأوروبية – بلدان الجنوب»، أن الصراع طويل الأمد سهّل توسُع تهريب المخدرات، ما قد يزيد الطلب على المواد غير المشروعة.
ومع أهمية مكافحة التهريب وتجارة المخدرات والأسلحة، فإن الحملة التي شنها مُتنفذون على النائب العام الصديق الصور، للمطالبة بعزله تنطوي على مخاطر كبيرة، أبرزها تهديد من يُحارب الفساد بمُعاقبته على حزمه في إنفاذ القانون، وترسيخ تقاليد الافلات من العقاب. وقد يكون خلف الحملة على الصور، رئيس الحكومة الدبيبة بعد اعتراض الصور على بيع حصة ليبيا في مجموعة «هيس» النفطية الأمريكية، كما أسلفنا. وكان مجلس النواب كلف لجنته التشريعية بإعداد مذكرة لشرح أسباب اعتراضه على الصفقة باعتبارها «مخالفة للقانون وإهدارًا للمال العام». ولاقى الاتجاه إلى عزل النائب العام رفضا واسعا في الأوساط القضائية والسياسية، إذ قام موظفو النيابة العامة في مدن عدة من بينها مصراتة والبيضاء وبني وليد، وقفات احتجاجية بمقر النيابة، استنكروا فيها الطعن المقدم من عضو المجلس الأعلى للدولة رئيسه السابق عبد الرحمن السويحلي، والذي طعن في قرار مجلس النواب تكليف المستشار الصديق الصور مهام النائب العام في 2021. وتأتي الحملة على النائب العام، في أعقاب الكشف عن عشرات ملفات الفساد وتسليط الأضواء عليها، وحبس كثير من المشتبه بهم في تلك القضايا، بعدما كانوا ينعمون بالافلات من العقاب. واعتبر المحتجون اعتراض السويحلي «تعديا على السلطة القضائية» مشيدين بالدور الذي يقوم به النائب العام الصور من أجل محاربة الفساد. وبات واضحا أن النائب العام لن يتوقف عند تلك التحقيقات، وإنما سيسعى إلى ضمان الشفافية والمساءلة عن كيفية إدارة عائدات النفط، ذلك الملف المتشعب والمُلغم بملفات الفساد، التي قد تطال شخصيات من الوزن الثقيل. كما تتردد في الأوساط السياسية الليبية تساؤلات حول خلفيات قرار مجلس النواب إقالة نائب محافظ المصرف المركزي علي الحبري، وتكليف مرعي البرعصي بمهامه، إذ هناك من رأى أنه تغيير طبيعي بعد سنوات من تولي الحبري هذا المنصب، فيما ينطلق آخرون من تزامن قرار العزل مع إنهاء عضوية الحبري في لجنتي إعادة استقرار بنغازي ودرنة، اللتين يرأسهما، لترجيح وجود ملف فساد. وكان النائب العام أعلن أنه أمر خلال الشهر الجاري بحبس عدد من المسؤولين احتياطيا في قضايا «تبدأ بالتجاوز وتنتهي بالتزوير والتحايل». ومن بين هؤلاء المسؤول المالي السابق بالشركة العامة لخدمات النظافة والقائم بمهام المراقب المالي في بعثة ليبيا لدى جمهورية رواندا. كما حبس المسؤول الصحي في بعثة ليبيا لدى أوكرانيا للاشتباه باختلاسه مبالغ كبيرة من النقد الأجنبي المعهود إليه حفظه. وأمر النائب العام أيضا بحبس المدير التنفيذي السابق لشركة الخطوط الجوية الليبية لإسناده أحد العقود إلى ابنه كي يتحصل الأخير على منافع مادية لا تجيزها التشريعات بحسب ما قال المستشار الصور. كما شملت الملاحقة القضائية القائم بأعمال بعثة ليبيا لدى جمهورية جنوب أفريقيا لصرف مرتبات لأشخاص انقطعت صلتهم بإطار وظائف البعثة، بحسب النيابة العامة. والأرجح أن ليبيا ستشهد معركة كسر عظم بين النائب العام ومن خاصموه بسبب إقدامه على شن أوسع حملة لمكافحة الفساد وإنهاء الافلات من العقاب في ليبيا منذ سقوط النظام السابق. ومن الصعب التكهن بمآلات تلك المعركة، لأن لكل فريق وعاء اجتماعيا وسياسيا يسنده، إن كان من مكونات المجتمع المدني، الذي سيُناصر الصور بقوة، أم من كبار المسؤولين في الدولة والإدارة، الذين سيعمل كثيرٌ منهم على إطفاء الحريق الذي أشعله النائب العام بشتى الوسائل.

تعليقات