رشيد خشــانة – أمريكا لا تنظر بعين الرضا إلى التقارب الصيني مع حليفتها السعودية، إلا أنها لا ترغب بفتح أزمة مع الرياض في الظرف الراهن.

عندما يصل الزائر إلى مدخل ميناء المياه العميقة بشرشال (غرب الجزائر) يُلاحظ لوحة كبيرة كُتبت عليها بين الرايتين الجزائرية والصينية، هذه العبارة: «رباط الصداقة يجمعنا دائما… معا نُحقق طريق الحرير» باللغة العربية والصينية والفرنسية. ويدلُ إنجاز هذا المشروع العملاق، الذي ينافس ميناء طنجة المغربي، على أهمية الدور الذي باتت تقوم به الصين في الجزائر، وهي أكبر دولة مغاربية، حيث أزاحت فرنسا من موقع الشريك الاقتصادي الأول للجزائريين. ومشروع ميناء شرشال، الذي تقدر كلفته بستة مليارات دولار، سيُستكمل إنشاؤه العام المقبل، ويعدُ الأكبر متوسطيا والخامس عالميا.
ومع التطور السريع للعلاقات الثنائية، انضمت الجزائر إلى طريق الحرير الصيني، وما تضمنه من مشاريع استراتيجية. وفي خط مُواز تفاقم غزو المنتجات الصينية للجزائر وبلدان الجوار، فصارت المصدر الرئيس لتموين الأسواق المغاربية الموازية، مُحطمة السلع الأوروبية، العاجزة عن منافسة منتجات ذات أسعار زهيدة، تُناسب إمكانات الفئات الفقيرة وحتى المتوسطة. بالمقابل تحتاج الصين لاستقطاب استثمارات طاقية، تقليدية وغير تقليدية وأخرى متجددة، وهي تجد مثل تلك التمويلات لدى دول الخليج.

أكبر مستهلك للنفط
على هذه الخلفية ما فتئ الحضور الصيني يتوسع ويتمدد في كافة أرجاء العالم العربي، ويمنح مساعدات وقروضا مُيسرة، ويبني شراكات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع دول المنطقة، على حساب القوى التقليدية الغربية. من هنا استطاع السعوديون إدماج ثلاث قمم في واحدة، بين السابع والتاسع من الشهر الجاري، الأولى ثنائية سعودية صينية والثانية عربية صينية والثالثة خليجية صينية. وأتت «القمة العربية الصينية الأولى للتعاون والتنمية» لتُضفي بعدا سياسيا واستراتيجيا على العلاقات الاقتصادية بين بكين والعالم العربي. وتُعزى مبادرة السعودية بإقامة القمم الثلاث في الرياض، إلى حجم الروابط الاقتصادية العميقة بينهما، إذ تعتبر الصين أكبر مستهلك للنفط السعودي.
وأعلنت «شركة الزيت العربية السعودية» (أرامكو) إحدى كبرى الشركات العالمية في مجال الطاقة، ومجموعة شاندونغ الصينية للطاقة، عن استكشاف فرص للتعاون في مجال التكرير والصناعات البتروكيميائية في الصين. وتوصلت الشركتان إلى التوقيع على مذكرتي تفاهم تتضمن الأولى اتفاقية لتوريد النفط الخام، واتفاقية ثانية لشراء منتجات كيميائية، ما يُعزز دور «أرامكو» السعودية في بناء قطاع مزدهر للتكرير والبتروكيميائيات في مقاطعة شاندونغ الصينية. ويمتد نطاق مذكرة التفاهم ليشمل التعاون عبر التقنيات المتعلقة بالهيدروجين، ومصادر الطاقة المتجددة، واحتجاز الكربون وتخزينه.

تموقع جديد

ويسعى السعوديون من خلال «أرامكو» إلى التموقع في أعماق قطاع الطاقة الصيني، من أجل خلق مسارات جديدة للنّمو، في بلد يقود التكامل المتزايد لعمليات التكرير والبتروكيميائيات وسبر مصادر الطاقة المتجددة، وهي مجالات رئيسية «ستشكل المستقبل المشترك للقطاع» حسب محمد القحطاني نائب رئيس «أرامكو». وتُعزز هذه الاتفاقيةُ جهود الشركة السعودية لتلبية الطلبات الصينية على الطاقة والبتروكيميائيات والمواد اللامعدنية، مع سعيها لتوسيع طاقتها في مجال تحويل السوائل إلى مواد كيميائية لتبلغ 4 ملايين برميل في اليوم بحلول العام 2030. أكثر من ذلك شكلت القمة السعودية الصينية وزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض مناسبة للتوقيع على شراكة إستراتيجية للتعاون في مجالات الاقتصاد الرقمي. وأفصح الصينيون في القمة عن رغبتهم بتدفق الاستثمارات من السعودية والجزائر بالأساس، لتطوير صناعة النفط الصينية.
وتدلُ كثافة الزيارات المتبادلة بين زعيمي الصين والسعودية، في السنوات الأخيرة، على الأهمية التي يوليها كل طرف للعلاقات مع الطرف الثاني، إذ زار الرئيس الصيني شي جين بينغ السعودية في كانون الثاني/يناير 2016 قبل أن يزور الملك سلمان الصين في آذار/مارس 2017 وهو قليل الزيارات للخارج. ولعل الزيارة الأهم هي تلك التي أداها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، للصين في شباط/فبراير 2019 باعتبارها مهدت للتوصل إلى اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الحالية. لكن الطريف أن السعودية ذكرت الحزب الشيوعي الصيني بخير في البيان المشترك، الصادر في أعقاب القمة السعودية الصينية، إذ ورد فيه أن الجانب السعودي «هنأ الصين بنجاح المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني» وهو موقف جديد من نظام سياسي يرفض التعددية الحزبية، خصوصا أن الأمر يتعلق بحزب يعتنق الشيوعية.

المغرب نقطة محورية؟

وكانت الصين وعدت في الدورة الثالثة للمنتدى الصيني العربي في أيلول/سبتمبر الماضي، بتطوير تعاون متين وأخضر ودائم مع العالم العربي بوصفه مجالا حيويا يستوعب توسعها الاقتصادي والاستراتيجي. وفي شمال أفريقيا تحديدا يأمل الصينيون أن يشكل المغرب نقطة انطلاق محورية لتحقيق أهداف مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس الصيني في العام 2013 على صعيد المنطقة المغاربية. وبمناسبة الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس لبكين العام 2016 تم التوقيع على الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، التي شكلت محطة جديدة في مسار العلاقات الثنائية.
وتقوم مبادرة «الحزام والطريق» التي تعرف أيضا باسم طريق الحرير الجديد، أو طريق الحرير للقرن الحادي والعشرين، على ضخ استثمارات ضخمة لتطوير البنى التحتية للممرات الاقتصادية العالمية، بُغية ربط أكثر من سبعين دولة في ما بينها. وكان الرئيس الصيني أطلق هذه المبادرة في العام 2013 وهي ترمي إلى إنشاء حزام بري من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى وروسيا، إضافة إلى طريق بحري يسمح للصين بالوصول إلى أفريقيا وأوروبا، بكلفة إجمالية تبلغ تريليون دولار. وبتعبير آخر فإن الصين التي توصف بكونها مصنع العالم، ستستفيد من هذا الانجاز في تسييل الطرق المؤدية إلى الأسواق العالمية، واستطرادا تعزيز ولوج صادراتها إلى مختلف دول العالم.

دول البريكس

كما تنص اتفاقية 2017 بين المغرب والصين ‏على تعهد الشركات الصينية الكبرى بالاستثمار في المغرب، خصوصا في صناعة السيارات والطيران والتكنولوجيا الفائقة والبنية التحتية والتجارة الإلكترونية والصناعة الزراعية والنسيج. ومما لاريب فيه أن أمريكا لا تنظر بعين الرضا إلى التقارب الصيني مع حليفتها السعودية، إلا أن واشنطن لا ترغب أيضا بفتح أزمة مع الرياض في الظرف الراهن، لأن الجانب الاقتصادي هو الطاغي في نتائج القمم الثلاث التي استضافتها السعودية، ولأن الملفات المفتوحة مع روسيا وإيران ودول أخرى لا تُتيح للأمريكيين المناخ الملائم لإجراء جردة حساب مع بكين. أكثر من ذلك، بدا وكأن الأمريكيين متضايقون من رغبة السعوديين الالتحاق بتجمُع «بريكس» الذي يضم قوى صناعية صاعدة بينها الصين والهند والبرازيل.
والدولة العربية الأخرى التي تقدمت بطلب انضمام إلى مجموعة «بريكس» هي الجزائر التي تحظى بدعم كامل من الصين، ما يدلُ على الاتجاه نحو تشكُل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وهو عنصر مهم يفرض بناء شراكات إستراتيجية بين الدول المعنية هنا وهناك. واللافت أن العرب ما زالوا، على الرغم من المستوى المتقدم للتعاون العربي الصيني، يسعون إلى فهم أكبر وأعمق للظاهرة الصينية الفريدة، أسوة بالباحث المغربي الدكتور نزار لفراوي، وهو صحافي بوكالة المغرب العربي للأنباء، الذي أصدر كتابا عنوانه «الصين… زعامة القرن». كما أصدر مواطنُه الشاعر عبد الحميد جماهري أخيرا أيضا كتابا جديدا عن زياراته للصين بعنوان «ذهبنا إلى الصين وعُدنا من المستقبل». والمستقبل العربي لن يكون بالتأكيد متماهيا مع المستقبل الصيني، الذي قطع سنوات ضوئية من النمو، منذ رحيل الرئيس ماوتسي تونغ، وزعيم المصلحين تنغ هسيو بينغ، الذي وضع علامات الانتقال إلى اقتصاد السوق. وربما الأهم من الاستثمارات وصفقات النفط أن يأخذ العرب عن الصينيين ذهنيتهم وبراغماتيتهم، وخاصة تقديسهم للعمل.

تعليقات