رشيد خشـــانة – قد تكون الأيام الأخيرة شهدت حراكا دبلوماسيا «بعيدا عن الأضواء» للاتفاق على اسم جديد يكلف بتشكيل حكومة تحل محل حكومة الدبيبة.

صاغ مجلس الأمن ما يُشبه خريطة طريق كي يهتدي بها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لدى ليبيا، عبد الله باثيلي، فيما حض المجلس الفرقاء الليبيين على الجلوس إلى مائدة الحوار لتأليف حكومة موحدة. لكن من الصعب استجابة أمراء الحرب لهذه الدعوة، فلو كانت لديهم أدنى رغبة بحل سياسي للصراع، لتوصلوا إليه منذ فترة بعيدة.
وفي المسار الليبي، الذي انطلق في أعقاب انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011، سيطر قادة الجماعات المسلحة على غالبية المدن، بما فيها العاصمة، وحولوا ليبيا إلى أكبر مخزن أسلحة يحتوي، بحسب بعض التقديرات على ما لا يقل عن 20 مليون قطعة سلاح.
ولوحظ أن مجلس الأمن أدمج في بيانه ضرورة إيجاد آلية بقيادة ليبية، تضمن إدارة عائدات النفط والغاز «بطريقة شفافة ومنصفة وخاضعة للمساءلة». وأتى هذا الموقف صدى لتقارير من هيئات محلية وأجنبية، حذرت من الانتشار الواسع للفساد، واجتياحه لدوائر عليا في الدولة.
ولئن شدد مجلس الأمن على ضرورة نزع أسلحة الجماعات شبه العسكرية، فإن الدول الكبرى التي تدعو إلى تنفيذ ما اتفقت عليه اللجنة العسكرية 5+5 في مثل هذا الشهر من العام الماضي، تبدو عاجزة أو غير راغبة في الضغط بما يكفي لنزع سلاح أعضاء الجماعات المسلحة وتسريحهم لمعاودة إدماجهم في المؤسستين العسكرية والأمنية. فهل يمكن أن نتصور على سبيل المثال أن الأتراك أو الروس سيوافقون على إجلاء قواتهم ومرتزقتهم من ليبيا بهذه البساطة؟ وفي ظل تفكيك أجهزة الدولة الليبية، منذ عهد معمر القذافي، باتت تلك الجماعات هي من يوكل إليه ضبط الأمن، إلا أنها كانت على الأرض القبضة التي يلجأ المتخاصمون إليها لضرب الخصوم، وهو ما فعله عبد الحميد الدبيبة أكثر من مرة، بما فيها منع جسم حكومي من الاجتماع لمناقشة مضامين الحل السياسي. واعتبر المحلل السياسي يوسف الفزاني أن ما أقدمت عليه الميليشيات المسلحة من منع جلسة لجسم حكومي، يتحمل مسؤوليته تنظيم الإسلام السياسي، مؤكدا أنه المشجع الرسمي للمليشيات، والطرف الذي يقف وراء تعاظم قوتها. وأشار الفزاني إلى أن مجلس الدولة نفسه يعد مسؤولًا عما جرى، فهو طالما قدم الدعم للمليشيات المسلحة عبر مساندتها سياسيًا على مدى السنوات الماضية.

دعاوى قضائية

ويُعتبر هذا الكلام عينة من الحوار/الصراع بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، فعلى الرغم من الدعاوى القضائية التي تستهدف وجوها عدة من حُكام ليبيا الحاليين، بتهم تتعلق بالفساد، ما زالت حكومة الوحدة الوطنية تُنفق من عوائد النفط على أطراف داخلية وخارجية، لتضمن استمرارها في الحكم. وبالنظر للأهمية التي توليها الشركات الأجنبية لمسألة الشفافية، ليس مستبعدا أن تبحث الدول المؤثرة في الصراع الليبي عن شخصية سياسية تكون أقل تورطا من فريق الدبيبة في عمليات فساد.
يتصادم هذا الهاجس مع محاولات رئيس حكومة الوحدة تبرئة وزراء في حكومته من تهمة الفساد التي ألحقت بهم. لا بل إنه أمر وزير الصحة الذي حبسته النيابة ثم أفرجت عنه، باستئناف عمله على رأس الوزارة، وكأن تلك الشبهات لم تكن. وكان بيان صادر عن مكتب النائب العام أكد أن رئيس النيابة العامة بمكتب النائب العام باشر إجراءات التحقيق مع وزير الصحة ووكيل الوزارة، «في شأن عدم مراعاة لائحة العقود الإدارية في تعاقدات القطاع».

ضمانات الشفافية

ومع تزايد الاقبال من المجموعات الدولية على استئناف مشاريعها في ليبيا، باتت مسألة الشفافية والحوكمة ترتدي أهمية كبرى، على غرار ما طالبت به أخيرا مجموعة «داوو» الكورية، التي تحاول العودة إلى بنغازي وتفعيل مشروعات المجموعة في مجال البنية التحتية، المتوقفة منذ أكثر من عشرة أعوام في المدينة، وذلك بالتنسيق مع جهاز تنفيذ مشروعات الإسكان والمرافق.
في هذا الإطار العملي، المرتبط بمشاريع معاودة الإعمار، يمكن فهم المبادرة التي أطلقها المجلس الرئاسي، بعد غيبوبة طويلة، والمتمثلة في الدعوة إلى عقد المؤتمر الأول للمصالحة في ليبيا، بمشاركة جميع القوى السياسية والاجتماعية في البلاد. وأفادت الناطقة باسم المجلس الرئاسي نجوى وهيبة، في تصريحات صحافية، أن «المصالحة التي يعمل عليها المجلس هي مشروع مجتمعي وليست مصالحة سياسية أو اقتصادية فقط». وتُذَكر هذه المبادرة بالمؤتمر الوطني الجامع الذي كان مقررا عقده في مدينة غدامس (جنوب غرب) في نيسان/أبريل 2019 بمشاركة أكثر من ألف شخصية سياسية واجتماعية ليبية، وفي ضوء 22 ورقة عمل أعدها خبراء في جميع المجالات.

حفتر يُحبط المؤتمر

وحال دون عقده هجوم قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس في الرابع من نيسان/أبريل، استباقا للمؤتمر. ولم توضح وهيبة ما إذا كان «المؤتمر الأول للمصالحة» امتدادا لمشروع غدامس المُجهض أم لا، لكنها أوضحت أنه «مشروع يتسم بالتكاملية والمشاركة المحلية الواسعة». والأرجح أن يسفر المؤتمر عن توصيات وقرارات يضعها المشاركون رجالا ونساء، عبر لجان مختصة تقود مسار المصالحة وتضمن المشاركة والملكية المحلية له. وسيسبقه مؤتمر تحضيري مطلع الشهر المقبل، يمهد للمؤتمر الأول للمصالحة.
وبرزت في الفترة الأخيرة مقترحات من أطراف دولية، بينها إيطاليا، لتشكيل «حكومة ثالثة» تحظى بثقة الداخل، بغية إنجاز الانتخابات. وكشف وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، عن محادثات دبلوماسية «مكثفة وسرية» ترمي لتحقيق الاستقرار، من دون إعطاء تفاصيل. وقد تكون الأيام الأخيرة شهدت حراكا دبلوماسيا «بعيدا عن الأضواء» للاتفاق على اسم جديد يكلف بتشكيل حكومة تحل محل حكومة الدبيبة. واستبق مجلس الأمن هذه الخطوة بدعوته الفرقاء الليبيين للالتقاء تحت رعاية الأمم المتحدة للاتفاق على وضع اللمسات الأخيرة على التسوية السياسية، بما في ذلك الأساس الدستوري اللازم لإجراء الانتخابات، ومن ثم اعتماد مخرجات الحوار الوطني الشامل، مع استمرار جهود المصالحة، استنادا إلى مبادئ العدالة الانتقالية.
ومن الأهمية بمكان أن يتخذ أعضاء مجلس الأمن موقفا صريحا في هذا الشأن، فقد أكدوا في بيانهم التزامهم بدعم «حوار ليبي شامل» يفضي إلى «تشكيل حكومة موحدة» قادرة على الحكم في جميع أنحاء البلاد، وتمثيل الشعب الليبي بأكمله.
ومن شروط نجاح هذه الخطة، التزام الجميع باتفاق 23 تشرين الأول/أكتوبر 2020 الخاص بوقف إطلاق النار، وتنفيذه كاملا، بما في ذلك خروج جميع القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب والمرتزقة من دون تأخير. وحذر أعضاء مجلس الأمن من التنفيذ الجزئي للاتفاقات. فمنذ حوار الصخيرات العام 2015 وحتى اجتماعات لجنة الـ 75 الخاصة بملتقى الحوار السياسي الليبي، كانت المعضلة في التنفيذ الجزئي لأي اتفاق، والاكتفاء بتكوين جسم تنفيذي، وإهمال ترتيبات الملفين الأمني والاقتصادي، رغم أنهما العائقان الرئيسان أمام حل الأزمة، حسب بعض الخبراء.
وإذا كانت الحكومة الثالثة ستستند على المحاصصة مثلما حصل في الماضي، على أكثر من صعيد، فإن مصيرها سيكون مشابها لمصير حكومات علي زيدان وفائز السراج وعبد الحميد الدبيبة، وبالتالي فإن نتيجتها لن تكون سوى تمديد المرحلة الانتقالية الدامية وإرجاء الحل الشامل.

تعليقات