رشيد خشـــانة –
  من السياسة إلى الصحافة، ثم إلى الثقافة، كان حسن الأمين شاهدا على التغييرات التي طرأت على المشهدين السياسي والثقافي الليبيين، أولا بصفته عضوا في”المؤتمر الوطني العام” (هيئة تأسيسية) قبل أن يستقيل منه، ثم بوصفه رئيس تحرير بوابة “السقيفة” الأدبية. وأتاحت الثورة للأمين وآلاف اللاجئين في الخارج العودة إلى ليبيا بعد ثلاثين عاما في المنفى أسس خلالها بوابة “ليبيا المستقبل”. لكنه يُحذر في هذا الحوار من تراجع كبير في مجال الحريات، وإهدار أموال طائلة بسبب الفساد، الذي قال إنه كان مُقنعا على أيام القذافي وبات اليوم علنيا. وبدأ الحوار من هذا السؤال:

■ اليوم وقد مضت أحد عشرة سنة على انتفاضة 17 شباط/فبراير، التي كُنت مشاركا فيها، كيف تصفها: هل حققت أهدافها وإن جزئيا، أم حادت عن المشروع “الثوري” الأول، الذي بشرت به؟
■ كان الهدف الأساسي لانتفاضة 17 فبراير2011 إسقاط نظام جثم على صدور الليبيين، طيلة أربعة عقود. فقد كانت عقودا من السجون والتعذيب والاعدامات، فضلا عن تردي الوضع الاقتصادي والصحي والتعليمي. ولم تُخصص الثروة، في بلد نفطي غني، لبناء ليبيا جديدة، بل كانت تُصرف أموال طائلة على مشاريع لا علاقة لها بليبيا، مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي وثورة نيكاراغوا. قامت الثورة إذن لوضع حد لهذه المنظومة، وحققت هذا الهدف. كما نجحت في انتخاب أول برلمان ليبي منتخب، بالرغم من كل ما حصل فيه لاحقا. ولا يمكن أن ننكر أيضا ما حققته الثورة على صعيد حرية التعبير، إذ أصبح الليبيون يتحدثون في الفضائيات وصار الإعلام حُرا بعدما كسر قيوده.

لكن حدثت أخطاء كثيرة بعد ذلك، وانحرف القطار عن السكة، فمن يتحمل المسؤولية؟
■ الجميع.. الأحزاب والمجتمع المدني والجماعات المسلحة الخارجة عن الدولة…

■ أنت أيضا أحد المسؤولين بصفتك كنت عضوا في المؤتمر الوطني العام، أليس كذلك؟
■ أولا عندما عدت إلى ليبيا بعدما قضيت سنوات طويلة في المهجر، وهي تجربة استمرت ثلاثين عاما، كان لدي هدف واحد وهو المساهمة في تأسيس إعلام حر ومستقل ومسؤول ومجتمع مدني فاعل ودعم قضايا حقوق الإنسان في ليبيا، والعمل على إيجاد مؤسسات تخدم الحقوق والحريات.
ثانيا لم يكن يدور بخلدي الترشح بل كان أمرا دُفعت إليه دفعا، بعدما أقنعني عدد من الأصدقاء بأن المؤسسة التشريعية التي نحن بصددها هيكلٌ تأسيسيٌ وليست مطية لممارسة السلطة، أي أن الهدف منها هو وضع الأساس لليبيا الجديدة وتحديد قواعد اللعبة، ثم بعد ذلك فليتنافس المتنافسون. لكن للأسف عندما انتُخب أعضاء المؤتمر الوطني العام لم يضعوا في اعتبارهم ما معنى فترة انتقالية، فتجاوزوا المهام التي انتخبوا من أجل النهوض بها، فهناك من تحدث عن مترو أنفاق في طرابلس ومن تحدث عن تحريم الربا وغير ذلك من المواقف التي جعلت المؤتمر يفقد مصداقيته، ولم يعمل بالمقابل على إنهاء وجود الجماعات المسلحة. من هنا بدأت تلك الجماعات تهيمن على القرار السياسي، وشاهدنا ما حصل في قضية العزل السياسي لرجال النظام السابق، بناء على قانون إقصائي. وهكذا وصلتُ إلى قناعة بأني كعضو مستقل مكاني ليس في “المؤتمر الوطني” بحكم تفاقم الاستقطاب السياسي والابتعاد عن مجابهة القضايا الأساسية، فاستقلتُ من المؤتمر لأني أريد أن أتكلم بحرية، من دون أن تفرض علي السلطة ضغوطها، وقررت العودة إلى مجالي أي الحقوق والإعلام، خاصة أن تلك الملفات صارت بحاجة لمن يتكلم عنها بكل صراحة وجرأة.

■ هناك حاليا تقارير تتحدث عن انتهاكات واسعة وتراجع كبير في ملف الحريات…
■ هناك فعلا تراجع كبير في مسائل حقوق الإنسان والاختطاف والقتل خارج القانون والملاحقات الأمنية. هناك أيضا أموال طائلة أهدرت وما زالت تُهدر في ظل الفساد، الذي كان مُقنعا على أيام القذافي وبات اليوم علنيا.

■ لماذ لم تشارك في انتخابات 2014؟
■ كان الوضع مشحونا قبل تلك الانتخابات، وكانت الأوضاع السياسية والأمنية غير مناسبة، وكان هناك مشكل في القانون الانتخابي. وقد قبلنا به في 2012 لكن لا يمكن أن يتكرر ذلك. وأشير هنا إلى أن انتخابات 2014 سبقتها أحداث تُنبئ بمشاكل أخرى قادمة، وكنا نرقب الاشتباكات الأمنية التي حدثت في طرابلس ومدن أخرى، ولذلك تمنينا تأجيل الانتخابات حتى يتم التعامل مع القضايا الساخنة ومنها ترشيد الناخبين وتوعيتهم. لكن للأسف تمت الأمور باستعجال ولذلك لم يكن الاقبال في مستوى 2012. وأعقب ذلك تجاذب حاد بين المؤتمر الوطني الذي كان يُصرُ على أن يتم التسليم والاستلام مع مجلس النواب في طرابلس، ومجلس النواب الجديد الذي كان يرفض أن يستلم في طرابلس. من هنا بدأت الخلافات، وكان من الواضح أن المؤتمر الوطني لم تكن له رغبة حقيقية في تسليم السلطة. وكان البرلمان أيضا مُتعنتا بإصراره على رفض الاستلام في طرابلس. كل هذه المواقف أدت إلى تدهور الوضع العام، وفتح صفحة دامية من الانقسامات السياسية والعسكرية.

■ لماذا لم تقدر الوساطات الليبية والعربية والأجنبية على الحيلولة دون الانزلاق إلى الصراع العسكري؟
■ صحيح، كانت هناك وساطات داخلية عن طريق مجالس الحكماء ورؤساء القبائل لكنها لم تُفلح، لأنها وساطات فاقدة لرؤية حقيقية وواضحة للخروج من الأزمة، وبعضها جاء من أطراف لها أجندتها الخاصة. وما زاد من استفحال الأزمة التدخلُ الدولي والإقليمي (تركيا، مصر…) اللتان جعلتا من ليبيا ساحة لحروب بالوكالة. وبالإضافة إلى ذلك، لا يملك المجتمع الدولي موقفا موحدا تجاه الأزمة الليبية، فالغرب منقسم، وهذا الانقسام صار أوضح عندما اشتد الصراع ودخلنا في حروب جديدة (عملية الكرامة ضد فجر ليبيا 2014) واقتحام طرابلس (2018). وكان التدخل الخارجي جليا، سواء من خلال الدعم السياسي أو العسكري بتوفير السلاح للأطراف المتصارعة (فرنسا، روسيا…) أو بقصف الطائرات المصرية أهدافا في ليبيا.

■ لنعُد إلى مسيرتك الإعلامية في المعارضة، لماذا تم اعتقالك في عهد القذافي؟
■ في الأصل لست إعلاميا ولا صحافيا، فقد غادرت ليبيا في 1983 خلسة، بعدما سُجنت لما كُنتُ أعمل بكلية التربية بجامعة بنغازي فرع البيضاء. واجتاح أعضاء “اللجان الثورية” كليتنا لـ”تطهيرها من الرجعيين وأعداء الثورة” واقتادوني مع رفاقي إلى السجن. لم تطُل فترة الاعتقال، لكنها برهنت لي على أن البلد مُقبل على اضطهاد كبير، فكان خروجي فرصة للمساهمة في تعريف العالم بما يجري في ليبيا، خاصة بعدما تمكنتُ من الاستقرار في لندن.

■ ماذا كانت خطتك؟
■ كان هدفي بالدرجة الأولى مواجهة النظام القمعي بجميع الوسائل المُتاحة، وكشف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في ليبيا. وانضممتُ إلى أحد فصائل المعارضة الليبية وبعد فترة قصيرة استقلت من العمل التنظيمي، وقررتُ أن أواصل كمناضل مستقل. من هنا جاء الخيار الإعلامي، ففي صراعنا مع النظام لابد لصوتنا أن يصل إلى الليبيين بطريقة أو بأخرى. في هذا السياق أتت صحيفة “ليبيا المستقبل” ولم يكن هدفي الدخول إلى عالم صاحبة الجلالة، بل توثيق انتهاكات النظام لحقوق الإنسان والتعريف بها، وإيصال صوتنا إلى الليبيين في الداخل، فالعمل الإعلامي فرضته علي طبيعة العمل النضالي في ذلك الوقت.

■ متى كان ذلك؟
■ في نهايات 2003 إذ أنشأنا موقعا إلكترونيا مفتوحا لجميع المعارضين والكتاب الليبيين في المهجر، وصار مصدرا إخباريا، إذ كانت تصلنا أخبار من الداخل، وكنا ننشر تقارير دورية عن الوضع في ليبيا ونغطي فعاليات المعارضة الليبية.

■ من كان وراء تحديد وجهة المشروع؟
■ لم يكن للموقع خط سياسي أو أيديولوجي، فأنا غير منتم، والفكرة كانت واضحة، وهي إنهاء الاضطهاد في ليبيا. وفي تعاملنا مع التقارير أو مقالات الرأي، كنا ننشر للجميع. الشيء الوحيد الذي كنا لا نسمح به هو الدفاع عن الدكتاتورية. كان لدينا كتاب يساريون وإسلاميون وليبراليون، ولم نكن نمنع النشر بسبب اتجاه الكاتب.

■ في تلك الفترة من كان صانع القرار في محيط القذافي برأيك: العائلة أم رجال الجهاز؟
■ العلبة هي علبة العقيد أو “القائد” فالنظام كان نظاما فرديا. ربما في السنوات الأخيرة بدأت تخرج بعض القوى إلى الضوء، لكنها لم تكن بعيدة عن القذافي. وهناك قرارات اتُخذت وكانت خاطئة بما في ذلك في اللحظات الأخيرة، لأنه لا يسمع، أو لأن الحاشية لا تقول له الحقيقة. ليبيا حُكمت بقبضة رجل واحد ولا أحد سواه.

■ هل تعتقد أن محاولة الإصلاح التي وعد سيف الاسلام بقيادتها قبل اندلاع الانتفاضة، كانت فعلا ستُرسي دولة القانون؟

■ أذكر أني وصفتُ هذا المشروع في البداية بـ”الأب والابن والروح الشريرة” وقصدتُ بالروح الشريرة اللجان الثورية. كان المشروع في حقيقته مشروع توريث بامتياز، إذ حاول النظام من خلاله امتصاص الغضب، وما أدى إليه من احتقان بدأ يشتدُ. لم يكن مشروعا جادا بل تجسيدا للتحالف بين سيف والإخوان المسلمين، فكل واحد منهما كان يستغل الآخر: من جهة، لدى الإخوان رؤية طويلة المدى للانتشار التنظيمي، فيما كان سيف يستغلهم جسرا لتحقيق مشروعه. لكن لا أحد منهما كان يثق في الآخر، إلى أن بدأ النظام يتداعى فتصدع ذلك الحلف. ولذا كان “الإخوان” في جاهزية كاملة عند اندلاع الانتفاضة في 2011 وتمكنوا من خلال شهر العسل مع سيف، من بعث مؤسسات داخل ليبيا والزيادة من نفوذهم، سواء في الإعلام أم في وضع القانون الانتخابي، أم في مجالات عديدة. مع ذلك كان لمشروع سيف، بالرغم من عدم جديته، دورٌ مهمٌ في إحداث شقوق في جدار النظام. وفي تلك الفترة بدأ الحراك الشعبي، من خلال اعتصام أسر المسجونين أمام السجن كل يوم سبت، فكان بمثابة عود الثقاب الذي فجر، مع تراكمات أخرى، شرارة الانتفاضة. والانتفاضة لا يمكن أن نقيسها بالمسطرة، فهناك تفاعلات عجلت باندلاعها، مع بدء ظهور ثقافة الاحتجاجات في ليبيا، وتأثير الثورة في كل من تونس ومصر، فكان لابد لليبيين من أن يفعلوا شيئا. وأذكر أنني كتبت مقالا في 2007 قلت فيه “هذا الشعب سيفاجئكم”. وفي ردي على شخص زعم أن الانتفاضة من صنع أمريكي، كتبتُ أن المعارضة الليبية “لا تهدف إلا لفضح النظام من أجل الوصول إلى التغيير الحقيقي”.

■ تعاني ليبيا من انقسام يُمزق أوصالها بين شرق وغرب، كيف تقرأ المشهد الراهن؟
■ الواقع الليبي اليوم مأسوي فنحن في دولة فاشلة أو بالأحرى في اللادولة، فهناك حكومتان وبرلمانان، ووصلت الأمور إلى الاقتتال بين رئيسي حكومتين، وسط تفاقم الانتهاكات وصعوبة الأوضاع المعيشية في ظل انقطاع الكهرباء لعدة ساعات، وتدهور حالة المستشفيات وتداعي البنية الأساسية الصحية. لذا لست أرى أن ليبيا ستخرج من هذا المستنقع طالما أن المتصدرين للمشهد هم من استُهلكوا، وهم الذين توجد بينهم أحقاد دفينة.
ليس محور الخلاف كيف نبني اقتصادنا أو علاقاتنا الخارجية، بل حول السلطة أي حول الغنيمة، بينما ليبيا دولة غنية وسكانها قليلو العدد ومتجانسون، والخلاف الحالي ليس بين الليبيين فنحن لسنا في حرب أهلية، إذ هناك مقاتلون من المنطقة الغربية يحاربون مع خليفة حفتر، وآخرون من المنطقة الشرقية يقاتلون في طرابلس. الميليشيات متكونة من مقاتلين من جميع المدن. لم نشهد قتالا بين مدينة وأخرى. لهذا لا أتوقع حلا في ظل وجود هؤلاء، لأنهم ما زالوا يصبون الزيت على النار.

■ كيف سيأتي الحل إذا؟
■ لن تصل ليبيا إلى الاستقرار طالما ظلت هناك مجموعات مسلحة على الأرض تُعيق الحل الذي يُعيد شرعية الدولة. ومن دون حل لمشكل السلاح لا سلام أهليا، فحتى لو توصلوا إلى اتفاق سيأتي هذا أو ذاك شاهرا سلاحه لإبطال ما اتُفق عليه. كنا نقول لابد أولا من نزع سلاح الميليشيات وحلها، والمفروض أن يكون ذلك قد تم قبل اتفاق الصخيرات (2015). لكن بقينا ندخل في اتفاق ونخرج من اتفاق والمشكل قائم. هذا السلاح لا يهدد السلم الاجتماعي والتوافق السياسي وحسب، بل يهدد أيضا معيشة الليبي. لذا أعتقد أنه لابد من تصور واضح مدعوم إقليميا ودوليا لنزع السلاح وحل الميليشيات المارقة عن سلطة الدولة.

■ ما هي مساهمة المجتمع المدني في الدفع نحو هذا الحل السياسي؟
■ أحد الاشكالات التي تواجهها ليبيا اليوم يتمثل بدور الإعلام في تأمين المناخ المناسب للحل. نحن نبحث عن الحرية والانفتاح وصحيح أن الإعلام حرٌ، لكنه ساهم مساهمة سلبية في زيادة الاحتقان ونشر خطاب الكراهية والحث على العنف. لدينا قنوات ووسائل إعلام اصطفت سياسيا، وليس لنا قانون إعلام ولا ميثاق شرف يجتمع حوله الليبيون. وبالتالي صحيح أن الإعلام قدم دعما للثورة، إلا أنه دخل إلى متاهات الصراع السياسي والعنف. ولا ننسى أن ليبيا ليست لها تقاليد ومؤسسات إعلامية، عدا مؤسسة سيف الاسلام، وهي مؤسسة عائلية. وبعد ذلك رأينا زيادة ملحوظة في عدد المؤسسات، لكنها لم تُبن على أساس صحيح، فبعض المؤسسات الناشئة وقعت في شباك الاستقطاب السياسي، ففقدت سلطتها المعنوية.

■ وبماذا تتميز منصتك؟
■ “السقيفة الليبية” منصة ثقافية أدبية على فيسبوك لا تتعاطى السياسة وتحتفي بالإبداع الليبي وهي مفتوحة على الإنتاج الأدبي العربي والعالمي. وهدفنا جمع وتوثيق كل ما يتعلق بالإنتاج الليبي بحيث أنك إذا ما أردت الاطلاع ستجد آخر الأخبار الأدبية ومقالات وتقارير ومتابعات ثقافية… بدأ المشروع بفكرة بسيطة مفادها “لماذا لا أنشئ صفحة لأجعل أصدقائي يشتركون معي في قراءاتي؟ طوال أكثر من عام لم يعرف الزوار من يقف خلف المنصة، وبعد ذلك كبرت “السقيفة” وصار يُرجع إليها ويُنقل عنها. وهي اليوم في عامها الخامس وتدلف إلى السادس. وقد تحصلت على جائزة تقديرية من وزارة الثقافة، ولها متابعون كثرٌ، وهي أول منبر ثقافي ليبي على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا النجاح يُرتب علينا مسؤوليات عديدة أولها أن نستمر ونتطور. وقد بدأنا برنامجا لإقامة فعاليات ثقافية حية من ندوات ومحاضرات، وخصصنا الفعالية الأولى للاحتفاء بمؤلفات الأديبة والقاصة عزة كامل المقهور في ندوة بتونس شارك فيها عدة نقاد وكتاب وأدباء.

 

تعليقات