رشيد خشــانة – تبدو العلاقات بين الرئيس التونسي قيس سعيد ومكونات الجسم السياسي والنقابي والإعلامي والحقوقي، مرشحة للمزيد من التدهور والتعفن. وشكلت حملات الاعتقال الموسعة في الأسابيع الأخيرة، انعطافا حادا، هو الأخطر منذ أن استولى سعيد على كافة السلطات في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021. ومن غير المستبعد أن تثمر الوساطات تراجعا عن المحاكمات التي يتم التخطيط لها، في حق زعماء سياسيين وشخصيات عامة، أسوة بالأمين العام لحزب «آفاق تونس» فاضل عبد الكافي والقيادي في حزب «التكتل الديمقراطي» خيام التركي، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي ورجل الأعمال كمال اللطيف ونائب رئيس حركة «النهضة» رئيس الوزراء الأسبق علي العريض والقيادي السابق في الحركة عبد الحميد الجلاصي، والمحامي نور الدين البحيري، إضافة إلى مدير إذاعة «موزاييك» الصحافي نور الدين بوطار والقياديين في «جبهة الخلاص» المعارضة شيماء عيسى وجوهر بن مبارك.

رؤية للخروج من الأزمة

وسيكون إصدار أحكام على هؤلاء وجرُهم إلى السجن مثارا لحملات تضامن واسعة، في الداخل والخارج، من علاماتها المُبكرة أن «الاتحاد العام التونسي للشغل» (اتحاد النقابات العمالية) الذي كان يتفادى الاقتراب من الأحزاب السياسية، عبر بلغة واضحة تماما، عن مؤازرته لضحايا الحملة الأمنية المستمرة، ورفضه اتهام معارضي سعيد بالتخطيط لانقلاب أو بالتخابر مع الخارج. وكان منطلق تلك الاتهامات اجتماعان علنيان عقدهما قياديون في الأحزاب الاجتماعية الخمسة، في مقر أحدهم (الحزب الجمهوري) للاتفاق على رؤية للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية السائدة. وكان الخبير خيام التركي هو من قدم مشروع رؤية للخروج من الأزمة الراهنة. ودُعيت لحضور اللقاءين 25 شخصية من تيارات مختلفة، وهو ما قد تكون السلطات اعتبرته «تآمرا على أمن الدولة الداخلي والخارجي». وتُرجح مصادر أمنية أن يتم اعتقال جميع المشاركين في الاجتماعين، إضافة لمن حضروا مأدبة غداء في بيت التركي.
والأرجح أيضا أن هذه العملية الاستباقية لا يمكن أن تستمر طويلا، لأن الملفات التي يمكن أن تُدين هؤلاء المعتقلين خاوية تماما، حسب لسان الدفاع. وخارج المشهد الحزبي تحركت منظمات المجتمع المدني لانتقاد الانعطاف القمعي للحكم، وخاصة «زيارات الفجر» التي جرت الاعتقالات في إطارها، وكذلك عمليات تفتيش البيوت وتخويف أفراد الأسر ومصادرة أجهزة الهاتف المحمولة والكمبيوترات. وفي مقدم مكونات المجتمع المدني التي قد تُصعد مواجهتها للحكم، نقابة الصحافيين التي أكد رئيسها محمد ياسين الجلاصي، أنها ماضية في الدفاع عن حرية التعبير وإدانة الرقابة الشديدة على وسائل الإعلام. والأسبوع الماضي تجمع عشرات الصحافيين أمام مقر الحكومة في العاصمة تونس وكذلك أمام مقرات المحافظات في المدن الداخلية، تلبية لدعوة من النقابة. ويُطالب الصحافيون بحماية حرية التعبير وإنقاذ مؤسسات إعلامية مهددة بالإقفال، وخاصة إذاعة «شمس أف أم» المُصادرة بعد ثورة 2011.
ويُرجح أن تُعبر المنظمات الحقوقية والمهنية الدولية، عن انتقادات شديدة لحملة الاعتقالات في تونس، ومنها الاتحاد الدولي للصحافيين الذي أعلن أنه يدرس تقديم شكوى بالسلطات التونسية إلى «مكتب العمل الدولي» بجنيف، في أعقاب إطلاق متابعات قضائية في حق نقيب الصحافيين.

على قلب رجل واحد؟

على هذه الخلفية ستكون الأحزاب المُعارضة والمنظمات النقابية والحقوقية على قلب رجل واحد، للمرة الأولى، منذ فترة حكم الرئيس الراحل حبيب بورقيبة (1957-1987). وبالمقابل ستتعمق عزلة النظام بعدما نجح في تكتيل الأطراف السياسية والاجتماعية ضده، خصوصا إثر رفضه الشديد إطلاق مشروع لحوار وطني جامع، مُعتبرا أن ما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة هو الإطار الملائم للحوار. ولم يشارك في الإقتراع خلال تلك الانتخابات، سوى حوالي 10 في المئة فقط من المسجلين، ما جعل الأطراف الداخلية والخارجية تعتبرها غير ذات معنى رافضة نتائجها، ومؤكدة أن الحوار لن يكون برعاية رئيس الجمهورية ولا بمشاركته. بهذا المعنى قد تكون الاعتقالات الأخيرة تندرج في إطار هذا الصراع لقطع الطريق أمام بلورة خطة سياسية واقتصادية جامعة لمرحلة ما بعد قيس سعيد. ويرى أصحاب الخطة، التي لم تكتمل بسبب الاعتقالات، أن من الضروري وضع برنامج إصلاحات شامل وجامع، يقوم على استيعاب الدولة لجميع الظواهر المتمردة حاليا بسبب الاستبداد، تمهيدا للعودة إلى المسار الديمقراطي. ومن هذا المنظور فإن الأمر يتعلق بمرحلة ما بعد قيس سعيد، أي بحالة تعود فيها الحرية وتنطلق مُحركات الاقتصاد، بناء على الثقة المُستعادة، وفي ظل العودة إلى الاستقرار. ويرى المعارضون أن هذه النقلة لا تتحقق إلا بتشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسية لمساعدة الاقتصاد على التعافي والحد من الضغوط الاجتماعية والمالية. وفي خصوص تيار الإسلام السياسي، الذي تمثله «حركة النهضة» والمنسحبون منها، فهناك اتفاق على أن تبقى خارج الحكم، وهذا في صالحها، لأنه يُتيح لها إجراء مراجعات وإدخال إصلاحات تنظيمية عميقة على هياكلها، تطالب بها قواعدها منذ سنوات.

ثلاثة أقطاب

من هنا تبلورت حاليا ثلاثة أقطاب يبدو أنها ستبقى مهيمنة على المشهد إلى فترة، ويصعب أن تتلاقى، اللهم في الميدان ضد سعيد، في مناسبات مثل الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال الشهر المقبل. وهذه القوى الرئيسية هي «جبهة الخلاص» التي تدعمها «النهضة» والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية المعروفة بـ«الخماسي» والحزب الذي أسسه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بقيادة المحامية عبير موسي، وهو مرشح للضمور جراء نهجه الاستئصالي، خاصة أن هذا الخيار فشل في تسعينات القرن الماضي، في تونس والجزائر والمغرب. أما قيس سعيد فليس له حزب، ولا فرصٌ للتدارك، لكونه أقصى نفسه من أي مبادرة استيعابية وتجميعية. أكثر من ذلك، أكد أنه يخوض «حرب تحرير وطني» مُتخذا من مواطنيه صنوا لجحافل الاستعمار ومتوعدا بـ«تطهير البلد منهم».
تتضافر هذه المعركة السياسية مع أزمة اقتصادية ومالية، اعتبرها خبراء الاقتصاد من أخطر الأزمات التي عرفتها تونس في السنوات الأخيرة، إن لم تكن أخطرها. وبالرغم من تطمينات الحكومة، فإن أزمة السكر والحليب والقهوة والزبدة وغيرها من المواد الأساسية، المفقودة حاليا، ستتوافر في شهر رمضان، لكن جزئيا بسبب النضوب التدريجي للمدخرات من العملة الصعبة، اللازمة لشراء تلك المواد نقدا. وهذا أحد الأسباب التي قد تهدد الاستقرار والأمن الاجتماعيين في المستقبل. وسيمنح الوضعُ الاقتصاديُ المتعفن وتراجعُ المقدُرة الشرائية للمواطنين النقابات، مزيدا من المُبررات لشن الاضرابات، وسط تزايد مذهل لنسب الفقر بحسب إحصاءات موثوق بها.
على هذا الأساس توقعت وكالة التصنيف الأمريكية «ستاندارد أند بورز» سيناريوا متشائما إذا لم تتوصل الحكومة التونسية إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإذا لم تستطع توفير تمويلات خارجية من مصادر أخرى. وحذرت من أن يؤدي ذلك بالبلاد إلى وضعية «العاجز عن الدفع». وهذا التصنيف مُشابه لتصنيفات أخرى قامت بها وكالات تصنيف مُماثلة من بينها «فيتش ريتينغ». وكان الرئيس سعيد سخر علنا من وكالات التصنيف وتهكم على دورها، ما جعل المكتب التنفيذي للصندوق يُرجئُ دراسة منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار إلى دورة اجتماعاته المقبلة. وبقاء مصير القرض عالقا يُربك الدورة الاقتصادية ويدفع الغاضبين من تدهور أوضاعهم الاجتماعية إلى شن حركات احتجاج في جميع المحافظات تقريبا. وحسب خبراء اقتصاديين لم يتمكن أصدقاء تونس من التأثير في قرار صندوق النقد الدولي لصالح تونس، لأنهم فوجئوا بوجود خطابين الأول عبرت عنه رئيسة الحكومة التي قالت إنها قدمت للصندوق خطة إصلاحات اقتصادية، بينما قلل سعيد، في خطابات شعبوية من دور صندوق النقد الدولي وصدقيته، ضاربا على وتر «الوطنية». ومن مظاهر الصعوبات التي تضغط على الإقتصاد أن الاستثمارات الصناعية تراجعت في السنتين الأخيرتين بنسبة 30 في المئة.

علاقات متوترة

ويمكن وضع العلاقات المتوترة مع الحليفين الرئيسيين لتونس، فرنسا وأمريكا، في إطار هذه السياسة المتمثلة في التهوين من ضرورة الاصلاح الاقتصادي. ولم تعد أمريكا تُخفي انتقاداتها للنهج السياسي الذي يسير عليه سعيد، وهي انتقادات أتت من مسؤولين رفيعي المستوى، من بينهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. كما خفض البنتاغون من حجم المساعدة العسكرية السنوية لتونس إلى النصف. ويسعى الأمريكيون إلى المساهمة في تحقيق الاستقرار في تونس، لأن استقرارها يُؤثر مباشرة في الأمن والاستقرار الإقليميين، ويمتد إلى ليبيا المجاورة ومنطقة الساحل والصحراء، فضلا عن غرب المتوسط.
وأثارت علاقات تونس مع بلدان مجموعة الساحل والصحراء سحابة كبيرة من الغبار، في أعقاب تصريح للرئيس قيس سعيد اتهم فيه المهاجرين غير النظاميين المقيمين في تونس، بالضلوع في خطة ترمي لتغيير التركيبة السكانية للبلد. وتلقف متطرفون تونسيون ذلك التصريح لشن حملة عنصرية واسعة على الأفارقة، علما أن تونس نفسها بلدً أفريقي. وأفادت مصادر إحصائية أن عدد هؤلاء لا يتجاوز 60 ألف مهاجر بين نظاميين وغير نظاميين، بينهم طلابً في الجامعات التونسية ومقيمون في مستشفيات خاصة. أما الغالبية فهي مؤلفة من الراغبين في الهجرة إلى أوروبا عبر البحر. وسُجلت اعتداءات عنصرية في الأيام الأخيرة، بعد تصريح سعيد، ما اضطره إلى تعديل كلامه السابق. لكن المخاوف لم تتبدد من ردات الفعل المحتملة على المهندسين ورجال الأعمال التونسيين العاملين في بلدان الساحل والصحراء.

تعليقات