نلتقي اليوم ونحن على مبعدة أيام من ذكرى عزيزة علينا في تونس وليبيا: الذكرى المئوية لمعركة ذهيبة الأولى التي انتقلت معها الحرب في ليبيا بين خليفة بن عسكر النالوتي والقوات الايطالية إلى تونس، لتنضم إليها القبائل التونسية في الجنوب. استمرت معركة ذهيبة من 18 إلى 23 سبتمبر 1915، أي قبل مائة عام.
واستمرت المعارك ضد الاستعمار إلى سنة 1918 التي شهدت الإعلان عن قيام الجمهورية الطرابلسية في 16 نوفمبر 1918 وقبلها الإمارة السنوسية في أفريل 1917.
كذلك نُحيي هذه السنة الذكرى المائوية لمعركة كبرى هي معركة قصر أبو هادي في منطقة سرت الكبرى، التي جرت في 29 أفريل 1915، وأدت إلى انسحاب القوات الايطالية من معظم المدن الليبية. وتتمثل قيمتها التاريخية في أنها أول معركة توحد فيها الليبيون من برقة وطرابلس وفزان. وما أحوجنا اليوم إلى هذا المثل الرائع ليتحد أبناء الوطن الواحد، من مختلف المناطق، من أجل هدف أسمى هو انعتاق الشعب وتحرر الوطن.
لم تفتر روابط الدم بين التونسيين والليبيين على مدى التاريخ، وخاصة أثناء انتفاضة 17 فبراير 2011 وما بعدها، بل زادت متانة وعمقا. لذا من الطبيعي اليوم ان يتأسس في تونس مركز أبحاث حول ليبيا، وأن نجتمع تونسيين وليبيين لنرصد معا مسار بناء الدولة الجديدة من خلال ملمح أساسي من ملامحها ألا وهو دور المجتمع المدني اليافع في إرساء دولة المؤسسات. فنجاح المصالحة في ليبيا هو فوز لتونس كما أن استقرار التجربة الديمقراطية في تونس ضمانة ومُحفّزٌ لأشقائنا في ليبيا. إنه المشروع الإحيائي المشترك الذي تعذر إنجازه في ظل سيطرة الاستبداد هنا وهناك، والذي نأمل أن نسير غدا على درب تحقيقه بدفع من مكونات المجتمع المدني في البلدين.
هذا من ناحية التاريخ وسيرورته الحتمية، أما من زاوية الجيوبوليتيك فليبيا دولة مركزية في المنطقة وليست دولة هامشية، وتكاملها مع تونس سيُضاعف من طاقات البلدين ويجعلهما قطبا اقتصاديا وعلميا وديموغرافيا يُشع على جواره.
ليبيا هي رابع دولة في أفريقيا من حيث المساحة رغم أن عدد سكانها حوالي سبعة ملايين فقط. وهي الجسر بين المشرق والمغرب العربيين، وحلقة الوصل بين أفريقيا وأوروبا، إذ تمتد سواحلها على مدى ألفي كيلومتر، وهو أطول ساحل بين الدول المطلة على البحر المتوسط.
ليبيا تملك عاشر أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم. هذا من حيث الامكانات والطاقات الكامنة، أما من حيث الواقع الفعلي فليبيا اليوم دولة مهددة بالافلاس. هذا البلد الذي يُعدَ من البلدان القليلة في العالم غير المدينة للصناديق المالية الإقليمية والدولية يُواجه خطر الانهيار الاقتصادي نتيجة الصراع الدامي الذي يشهده، خاصة بعد دخول ما يُسمى بتنظيم الدولة الاسلامية على الخط. وهنا يبرزُ ويتأكد دور المجتمع المدني الذي ضرب مثلا رائعا في الشجاعة والتضحية خلال ثورة 17 فبراير وبعدها، رغم سياسة التجفيف والتصحير التي مارسها النظام السابق على مدى أربعة عقود. ويجب أن نشيد هنا ونترحم على طلائع الشهداء والشهيدات من المجتمع المدني الليبي، وآخرهم المستشار بلقاسم الزوي رئيس تجمع منظمات المجتمع المدني الذي اغتيل يوم 16 سبتمبر 2015 في مدينة اجدابيا على يد مسلحين أطلقوا عليه رصاص الغدر في أحد شوارع المدينة ولاذوا بالفرار.وقبل الشهيد بلقاسم الزوي فقدت ليبيا في جوان / يونيو 2014 سيدة عظيمة هي المحامية والمناضلة الحقوقيةسلوى بوقعيقيس، التي تُعد من رموز الثورة وأحد مؤسسي المجلس الوطني الانتقالي الذي قاد مرحلة انطلاق الثورة. ولا ننسى أن اليد الآثمة التي اغتالتها اغتالت أيضا المناضلة الحقوقية والسياسية انتصار الحصائريالعضو المؤسس في حركة تنوير، التي عُثر على جثتها في الصندوق الخلفي لسيارتها يوم 24 فبراير الماضي بطرابلس. والقائمة طويلة.
مجتمعٌ مدنيٌ على مثل هذه الدرجة من الوعي والإستعداد للتضحية ماذا يمكن أن يُقدم لليبيا في المرحلة المقبلة؟ ذاك هو السؤال المحوري الذي سنتداوله في جلساتنا اليوم وغدا بمشاركة نخبة من الأكاديميين والنشطاء والإعلاميين والحقوقيين. ولعلنا نستعين هنا بدراسة حديثة أعدها كل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” يوم 20 ماي الماضي عن منظمات المجتمع المدني الليبي، بهدف توفير قاعدة بيانات مفصلة عن طبيعة الأنشطة في مدن طرابلس وبنغازي ومصراتة والزاوية وزوارة. وتُبرز الدراسة زيادة أنشطة منظمات المجتمع المدني الليبية محليا وبين الليبيين في الخارج، والانتشار الملحوظ للمنظمات النسائية، التي تشكل 12 في المائة من بين مجموع منظمات المجتمع المدني التي شملتها الدراسة. وتوثق الدراسة زيادة التعاون على المستوى المحلي بين منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية والبلدية، الذي أثبت فائدته وفعاليته من حيث كلفة صيانة البنية التحتية المتضررة، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية. وسنُخصص لهذا الموضوع محورا في الجلسة الأولى من ندوتنا اليوم.
كما تطرقت الدراسة إلى موضوع هام آخر هو تناقص التمويل على الرغم من تزايد أدوار منظمات المجتمع المدني في تقديم الخدمات في جميع أنحاء ليبيا، مما اضطرها إلى الاعتماد بشكل أساسي على تبرعات أعضائها. وقد ساهم تباطؤ الاقتصاد الليبي والنزاع المسلح الدائر في انخفاض تمويل أنشطتها.
من هنا تبرز أهمية المبادرات المجتمعية الداعمة للحوار السياسي ومنها مبادرة 15 أوت / أغسطس التي أطلقها حقوقيون ومثقفون وإعلاميون دعوا فيها إلى الدعم الكامل واللامحدود للحوار السياسي الليبي. وما سنسعى إليه في ندوتنا هذه ليس التنظير بقدر ما هو البحث عن مُخرجات عملية واقتراح صيغ جديدة وآليات مُبتكرة لتفعيل هيئات المجتمع المدني وتعزيز علاقاتها مع المؤسسات المجتمعية الأخرى وفي مقدمتها البلديات.
في الختام أجدد الشكر والامتنان لكل من شرفنا بالحضور وأتمنى لأعمال ندوتنا النجاح والسداد.
تونس 5-6 أكتوبر 2015