رشيد خشــانة – يُتابع الليبيون والمهتمون بالأزمة الليبية الحوارات التمهيدية لمنتدى تونس السياسي، المقرر عقده اعتبارا من التاسع من الشهر الجاري، باهتمام، وهي الحوارات التي انطلقت برعاية الأمم المتحدة يوم الإثنين الماضي، عبر الفيديو. وتشارك فيها 75 شخصية ليبية، بينها أعضاء من مجلس النواب (شرق) ومجلس الدولة (غرب) إلى جانب مكونات اجتماعية واتجاهات سياسية مختلفة. وترمي الحوارات، الممهدة لمنتدى تونس، إلى اختيار سلطة تنفيذية مؤقتة، تكون محل إجماع وطني، لكي تدير مرحلة انتقالية، يجري خلالها تنظيم استفتاء على دستور جديد وانتخابات تشريعية ورئاسية، تمهيداً لنقل السلطة إلى مؤسسات دستورية منتخبة.

ووضع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو سقفا لهذه الحوارات، بدعوته إلى تسليم السلطة في ليبيا إلى هيئات تنفيذية جديدة للتحضير للانتخابات. وشدد على ضرورة إخراج المقاتلين الأجانب من البلد، في غضون تسعين يوما، وفقا لاتفاق وقف إطلاق النار الدائم، الذي توصل له طرفا الصراع يوم 23 من الشهر الماضي في جنيف.

لن يكون من السهل ترجمة هذه الأهداف إلى وقائع على الأرض، لأن كل واحد منها مليءٌ بالألغام، وخاصة ما يتعلق بحل الميليشيات وإخراج المقاتلين الأجانب من البلد. كان كل طرف من المعسكرين المتحاربين حصل على دعم خارجي مكثف، لم يقتصر على الطائرات والأسلحة والذخائر وحسب، وإنما شمل أيضا إرسال مقاتلين للمشاركة في الحرب. وتتهم حكومة الوفاق الوطني غريمها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر بالاستعانة بمئات من عناصر المجموعة الأمنية الروسية الخاصة “فاغنر” التي يرأسها يفغيني بريغوجين الصديق الحميم للرئيس بوتين. وفي المقابل يتهم أنصار حفتر حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، باستقدام مقاتلين من المعارضة السورية. وزاد الصراع العسكري على مدى خمس سنوات من تعميق انعدام الثقة بين الطرفين المتحاربين، واستطرادا بين حلفائهما الإقليميين والدوليين.

وكان لمذكرة التفاهم التي توصلت إليها تركيا وحكومة الوفاق يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لتطوير التعاون العسكري بينهما، دورٌ حاسمٌ في إنهاء الحرب. فبعدما أطلق الجنرال حفتر هجومه على طرابلس في الرابع من نيسان/ابريل 2019 وجد صعوبة في تحقيق نصر سريع وعد به الليبيين، فاستدعى مقاتلين من مجموعة “فاغنر” التي يُعتقدُ أنها الذراع المسلحة للمخابرات الروسية، لتعزيز قواته. واستطاع المرتزقة بتدريبهم الجيد وأسلحتهم المتطورة الزحف على طرابلس، وأوقعوا خسائر كبيرة في صفوف القوات المدافعة عن العاصمة، حتى باتوا على قاب قوسين من وسط المدينة. من هنا أتى لجوء حكومة الوفاق إلى الدعم التركي لتعديل الميزان العسكري. وأبرز الصحافي ديفيد كيركباتريك، في تقرير ميداني نشره في صحيفة “نيويورك تايمز” الدور الروسي في دعم الميليشيات التي تقاتل الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، وأن الضحايا الليبيين صاروا مستهدفين برصاص جديد يُصيب الرأس ويقتل مباشرة، وهو سلاح أتى به المرتزقة الروس “المهرة”. وقال الجنرال أسامة الجويلي، القائد العسكري الذي قاتلت قواته جيش حفتر، في تصريحات للصحافي كيركباتريك، إن ثلثي القتلى بين جنوده قتلوا بواسطة الطائرات المُسيرة. لذا كانت هذه الطائرات هي الميزة الوحيدة لدى حفتر،عندما بدأ هجومه على طرابلس.

من هنا كان رد الخبراء الأتراك الذين أتوا لمساعدة قوات الوفاق، بأن نقلوا المعركة إلى الجو، مستخدمين طائرات مُسيرة تركية من طرازي “العنقاء” و”بيراقتار” ما أوقع خسائر كبيرة بالميليشيات، التي كانت تحاصر طرابلس. وشملت الخسائر بعضا من عناصر “فاغنر” الذين يُعتقد أن 35 عنصرا منهم قُتلوا في تلك الغارات، أما الباقون فاتجهوا سريعا إلى مدينة سرت (وسط) وقاعدة الجفرة، حيث يربض سرب من الطائرات الحربية الروسية، والتي رصد الأمريكيون حركتها لدى انتقالها من قاعدة حميميم في سوريا إلى الجفرة الليبية.

بعد ذلك، صار خط سرت/الجفرة هو خط الفصل بين قوات حفتر، المنسحبة من طرابلس، وقوات الوفاق، ولم يستطع أيٌ منهما تحريك خطوط الفصل، ما يسر إعلان الطرفين، بشكل منفصل، عن وقف مؤقت لإطلاق النار. وتم تكريس هذا الاعلان باتفاق توصل له ضباط من الجانبين، يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بعد اجتماعات استمرت خمسة أيام في جنيف. إلا أن مراقبين تساءلوا عما إذا كان المُفاوضون يسيطرون على عناصرهم المسلحة على الأرض. كما استبعد آخرون أن تتخلى الأطراف الخارجية الفاعلة في ليبيا، بسهولة، عن نفوذها الذي حصدته بجهود مضنية.

قطب الرحى

كان الاتفاق العسكري قطب الرحى في العملية السياسية متعددة المسارات، التي ترعاها الأمم المتحدة، والتي توزعت على المحور السياسي، المُتصل بإجراء انتخابات عامة وتشكيل مجلس رئاسي واختيار رئيس حكومة جديدين، والمحور العسكري الأمني، الذي أفضى إلى اتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، فيما اشتغل المُفاوضون في المحور الاقتصادي المالي على الموازنة وقطاع النفط. وأسفرت الاجتماعات التي استضافتها مدينة بوزنيقة المغربية، عن وضع آلية لتعيين مسؤولين على رأس المؤسسات الرئيسة (الموحدة) ومنها هيئة مكافحة الفساد وهيئة الحوكمة والرقابة الادارية والمؤسسة الوطنية للنفط، التي تعتبر العامود الفقري للاقتصاد الليبي، ومصرف ليبيا المركزي والمفوضية العليا للانتخابات والنائب العام وقيادة القوات المسلحة. وسيُراعي المشاركون في اجتماعات تونس، لدى اختيار المسؤولين عن هذه المؤسسات، العمل على توحيدها، بعدما ظهرت بعض التشققات، الناتجة عن محاولات حفتر وداعميه تقسيم مؤسسات الدولة بين الشرق والغرب، لا سيما بعدما أمر بقفل الحقول والموانئ النفطية، لممارسة الضغط على حكومة الوفاق.

وأظهر قرار إعادة فتح الحقول والموانئ النفطية، حجم الضغوط الدولية على الجنرال حفتر، بعد انسحاب قواته من محيط طرابلس، إذ فُرض عليه التراجع فرضا. وكان عناصر “فاغنر” من القوات التي سيطرت على المنشآت النفطية في الشرق والغرب على السواء، ووضعت حكومة الوفاق في وضع حرج جدا. كما تسبب الغلق بتجفيف إيرادات المصرف المركزي من العملة الصعبة، واستطرادا تضاؤل السيولة لدى المصارف التجارية، ونقص الطاقة وكثرة انقطاعات الكهرباء وشح البنزين لدى محطات التوزيع. لذا كان أحد التداعيات الايجابية لإعلاني وقف إطلاق النار المتزامنين، عودة الحقول إلى الانتاج تدريجيا، ما أتاح الوصول حاليا إلى ما يفوق 500 ألف برميل في اليوم. ويُرجح أن يعود الإنتاج إلى المستوى الذي كان عليه قبل الاقفال والذي يُقدر بـ1.2 مليون برميل في اليوم. ومن الصعب أن يعود اللاعبون في المستقبل إلى لعبة المساومة بحقول النفط، بعد تسجيل اتفاق الوقف الدائم لإطلاق النار في الأمم المتحدة، وتوعُد القوى الكبرى من يُخاطر بهذه اللعبة، بتسليط أقسى العقوبات عليه. وتم التلويح بسيف العقوبات هذا أيضا في وجوه من قد يُحاولون إفشال اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه أعضاء اللجنة العسكرية 5+5.

من غدامس إلى تونس

وبمعنى من المعاني ستشكل الحوارات السياسية الليبية في تونس، استعادة لمسار الحوار الوطني الشامل، الذي كان مُزمعا عقده في مدينة غدامس (جنوب غرب) في الفترة من 14 إلى 16 نيسان/ابريل 2019 بعد سنة كاملة من الاجتماعات التمهيدية. غير أن الجنرال حفتر قطع الطريق على المبادرة آنذاك، فأطلق هجومه المفاجئ على طرابلس قبل أقل من عشرة أيام من الميقات المقرر لانطلاق الحوار السياسي، فأجهضه وذهبت الجهود التي بذلها فريق الإعداد، بقيادة غسان سلامة، أدراج الرياح. وفي إطار الإعداد لذلك الحوار عقد المنظمون، بدعم من بعثة الأمم المتحدة، 77 اجتماعا شارك فيها 6000 ليبي، وأنتجت 80 ألف ورقة، لُخصت في 22 ورقة، وشملت الأوراق كل المجالات تقريبا.

ويجوز القول إن اجتماعات الحوار السياسي في تونس لن تخرج عن السقف الذي حدده وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، الذي دعا إلى تسليم السلطة في ليبيا إلى هيئات تنفيذية جديدة للتحضير للانتخابات، مع الاتفاق على ميقات إجرائها. ويُتوقع من الاجتماعات أن تخرج بتوافق على تشكيل مجلس رئاسي مصغر يتألف من ثلاثة أعضاء بدلا من تسعة حاليا، وفصله عن الحكومة والتمديد للسراج، على الأرجح، إلى حين إجراء الانتخابات العامة. وكان الأخير أعلن في 16 سبتمبر أنه سيغادر منصبه قبل نهاية تشرين الأول/اكتوبر، غير أن رئيس مجلس الدولة خالد المشري وجه له رسالة طلب منه فيها البقاء في منصبه إلى حين تسمية سلطات تنفيذية جديدة، وهو ما كان متوقعا. كما دعته المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، على لسان وزير خارجيتها هايكو ماس، عبر اتصال هاتفي، إلى التريث في قرار الاستقالة، والبقاء في المنصب حتى انتهاء المفاوضات الجارية حاليا، فاستجاب للطلب. أكثر من ذلك، تأكد أن هذا الموقف هو موقف الأمم المتحدة وأمريكا معا، اللتين وجهتا باستبقاء السراج والمحافظة على مؤسسات الحكم الانتقالي الحالية، ريثما تتبلور رؤية واضحة في شأن آليات تشكيل “حكومة الوحدة”. وهذا هو الطلب الذي توجه به للسراج السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند.

جدل التمثيلية

تُوجَهُ انتقادات إلى قائمة الأعضاء الخمسة والسبعين المشاركين في المنتدى السياسي، تُقلل من تمثيلية بعضهم، على اعتبار أن من بينهم مسؤولين سابقين “جُربوا ولم يصحوا” على ما يقول خصومهم، كما أن شبهات فساد تلاحق البعض الآخر. مع ذلك، شكا بعض التيارات السياسية ومن بينها أنصار نظام القذافي مما اعتبروه إقصاء لهم. غير أن نائبة رئيس بعثة الدعم الأممية وليامز ردت بأن الأمم المتحدة “تعلمت من العمليات السياسية السابقة عدم استبعاد أي تيار سياسي”. وأكدت أن هناك تمثيلا للنظام السابق في حوارات تونس. إلى ذلك شكا بعض زعماء القبائل والسياسيين في المناطق الداخلية من استبعادهم من الحوار، وخاصة منطقة الجنوب الشرقي، الذي يمثل ربع مساحة البلد، ويضم أكثر من 300 ألف ساكن، لكن سيمثله في الحوار شخص واحد. كما يؤاخذ ممثلو بعض المناطق على كونهم لا يقيمون في مناطقهم، وإنما في العاصمة أو خارج ليبيا. ومن أكبر المنتقدين للمسار أيضا ممثلو الأقليات وخاصة الأمازيغ والتبو والطوارق، فيما ركز أعضاء من مجلس النواب (شرق) انتقاداتهم على أن هناك تمثيلا متضخما لـ”الاسلام السياسي”، متهمين الأمم المتحدة بـ”محاولة تنصيب هذا التيار في السلطة”، وتسمية عناصر ينتمون له في حصة المستقلين.

العصا الأمريكية

اضطرت الأمم المتحدة وأمريكا إلى رفع العصا في وجوه المتخاصمين على المشاركة في منتدى تونس، بعدما اندلعت معارك كلامية بينهم وصلت إلى حد الملاسنات. ومعلوم أن النقاشات الجارية حاليا، بواسطة الاتصال الألكتروني، ترمي لاختيار سلطة تنفيذية مؤقتة، تكون محل إجماع وطني، لتُدير مرحلة انتقالية يجري خلالها تنظيم استفتاء على دستور جديد، وانتخابات تشريعية ورئاسية، تمهيداً لنقل السلطة إلى مؤسسات دستورية منتخبة.

وقد يكون أحد أسباب الخصومات ما رشح أخيرا عن إجراء مفاوضات موازية في الرباط بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ونائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق، بوساطة مغربية، قيل إنها تطرقت لإيجاد صيغة للحفاظ على هدنة طويلة الأمد، وتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات العامة وتكوين حكومة موحدة وإقرار دستور جديد. وترتدي تلك الحوارات/ المفاوضات أهمية خاصة، بالنظر إلى أن اسم عقيلة صالح من الأسماء المتداولة لتولي رئاسة مجلس الدولة، فيما يُتداول اسم معيتيق لرئاسة حكومة الوفاق إذا ما أصر السراج على المغادرة.

مصير المرتزقة

إلى هذه القضايا الشائكة، يُعتبر ملف تجميع السلاح الثقيل وحل الميليشيات وإدماج عناصرها في الجيش المنوي تشكيله، أحد المواضيع الثقيلة التي سيتناولها المشاركون في حوارات تونس، فمن دون إحصاء الأسلحة ووضع قائمات بالأجسام المسلحة، التي تناسلت بشكل مكثف في السنوات الأخيرة، لا يمكن تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار الدائم، واستطرادا قد يتعطل تشغيل آليات التنفيذ، التي نص عليها الاتفاق. وبخصوص المرتزقة، يجري نقاش في شأن مواعيد مغادرتهم ليبيا “في إطار زمني مناسب”، على ما قال الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس. غير أن هذه القضايا الحساسة ستحظى، بالتأكيد، بمتابعة دقيقة، ليس فقط من الأطراف الليبية، أثناء حواراتها في تونس، وإنما خاصة من القوى الاقليمية والدولية المؤثرة في مصائر الحوار.

في السياق تسعى دول الجوار إلى لعب دور الدافع للتسوية السياسية، ولذلك حافظت في غالب الأحيان على مسافة متساوية من طرفي الصراع في ليبيا. وهي تحتاج إلى استتباب السلام في الدولة الجارة لهدفين، أولهما إنهاء بؤر التوتر في المنطقة، واحتواء تداعياتها على أمنها الداخلي، وثانيها تحصيل منافع من مشاريع إعادة الإعمار التي تعتبر نفسها أولى بها من شركات آتية من دول خارج المنطقة. وكان يمكن لهذه الدينامية المغاربية أن تشكل محورا موحدا لدفع الأمور في ليبيا نحو الاستقرار. غير أن الخلافات العميقة بين الدول ألقت بظلالها على التعاطي مع هذا الملف، ما جعل المصريين ينسحبون من المبادرة الثلاثية (مع تونس والجزائر) ويعلنون لاحقا مبادرتهم خاصة، فيما استمرت المناكفات بين الجزائر والمغرب بتعطيل أي مبادرة مغاربية. مع ذلك استطاع المغاربة استضافة اجتماعات بوزنيقة التي تكللت بالنجاح، من دون أن تظهر بصماتهم بشكل مباشر، مثلما كان الأمر في اجتماعات الصخيرات العام 2015. وكان إرساء سفينة الحوارات في تونس ثمرة لأوضاع دولية حالت دون عقدها في أوروبا، إذ امتنع الأوروبيون عن منح تأشيرات لبعض الحضور، كما أن الدول الأوروبية رفضت مجيء المتحاورين إلى أراضيها بسبب انتشار وباء “كوفيد 19” في ليبيا، وصعوبة التأكد من عدد الإصابات هناك.

تعليقات