زاد اجتماع تونس المزمع عقده بين الأطراف الليبية المتحاربة من آمال التوصل إلى اتفاق المتنافسين على تسوية تنهي نزاعا أهليا بدأ بعد الإطاحة بالزعيم معمر القذافي والحرب الأهلية التي اندلعت في 2014 بعد إعلان الجنرال المتمرد خليفة حفتر عن حملته للسيطرة على ليبيا. ويأتي الاجتماع المزمع عقده في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 23 تشرين الأول/أكتوبر الذي رعته الأمم المتحدة في جنيف. ورغم ما في الاتفاق هذا من غموض في التفاصيل وعيوب قد تدفع هذا الطرف أو ذاك إلى خرقه، إلا أنه يمثل تقدما واستعدادا جديدا من المتحاربين للتحاور. ودفع لهذا الاجتماع عدد من التطورات على الساحة الليبية منها هزيمة وفشل حفتر في حملته على العاصمة طرابلس.

كما أن الاجتماع هو بالضرورة نتاج للجهود الدبلوماسية، خاصة الأمريكية الدفع نحو حل سياسي، وشعور الطرفين في الساحة الليبية أن الحسم العسكري غير وارد فأي منهما ليس قويا بدرجة كافية لتحقيق النصر على خصمه. وبالتحديد فقد خسر حفتر حملته التي بدأت على العاصمة طرابلس في نيسان/إبريل 2019 وانتهت في بداية هذا الصيف. وجاءت تركيا لنصرة حكومة طرابلس بحيث أخرجت قوات حفتر من كل الغرب الليبي وأقنعته باستحالة إخضاع حكومة الوفاق الوطني. وترى أليسون بارغتر، بمقال نشره موقع المعهد الملكي للدراسات المتحدة (روسي) في لندن (30/10/2020) أن الطرفين استنتجا أن التدخل الأجنبي في البلاد وصل مرحلة لم تعد ليبيا تملك مصيرها.

صعوبات

ورغم التفاؤل من الامكانيات التي يحملها اجتماع تونس المقبل إلا أن ترجمة نتائجه على الأرض ستكون صعبة. وقد تتكرر نفس الأخطاء التي ارتكبتها الأمم المتحدة عندما كان المتحاربون يتفقون على خريطة طريق ثم يقوم طرف أو أطراف أخرى بنقضها. وعادة ما تقود الصيغة السياسية التي يتفق عليها المتحاربون لمزيد من الخلافات. وطرحت بارغتر عددا من المشاكل التي تعتري اجتماع تونس، تتعلق بالشرعية وانقسام البلد إلى شرق وغرب وتداعيات أخرى. وبحسب خطة الأمم المتحدة لاجتماع تونس فالهدف هو “بناء اجماع حول إطار حكم موحد وترتيبات قد تقود إلى انتخابات عامة وفي أقرب وقت ممكن وبهدف استعادة السيادة الليبية والشرعية الديمقراطية للمؤسسات الليبية”. وما دام الحديث عن الشرعية فهناك عدة أسئلة تتعلق بشرعية المشاركين في الاجتماع، فلا يوجد مثلا وضوح أو معيار للمشاركين الذين اختارتهم بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. ففي الوقت الذي حاولت فيه البعثة توسيع رقعة المشاركة عندما اختارت 75 شخصا للاجتماع إلا أنهم يمثلون مزيجا من الأفراد والناشطين المعروفين على الساحة الليبية منذ 2011 بإضافة حفنة من رموز النظام السابق. ولا يعرف القاعدة التي أقامت فيها البعثة اختيارها لهؤلاء الأفراد كي يقرروا المرحلة الانتقالية المقبلة للبلاد. وهناك اعتراضات من الشرق على بعض الشخصيات الإسلامية أو الموالية لجماعة الإخوان المسلمين والتي اختيرت للمشاركة. واشترطت الأمم المتحدة تخلي المشاركين عن صفتهم الرسمية وإن كانوا يشغلون مناصب سيادية أو سياسية لدى الطرفين. وهو ما قاد لتكهنات من أن المشاركين لن تكون لديهم السلطة والنفوذ لتطبيق ما يخرج عن الاجتماع. وبغياب عرابي السلطة فلن يكون الاجتماع سوى محاورة عادية تؤدي لحكومة أخرى تفتقد الشرعية ويعطي شعورا لليبيين أن الحل فرض عليهم من فوق. وكما حدث في 2015 عندما تم إنشاء المجلس الرئاسي الذي لم يحظ باتفاق الطرفين.

توزيع أم تقسيم؟

إلا أن الاجتماع المزمع عقده لن يتعدي البحث عن صيغة تقوم على تبادل وتقسيم السلطات بين الشرق والغرب. وسيؤدي إلى إعادة تشكيل المجلس الرئاسي ليضم رئيسا ونائبين يتم اختيارهم من مناطق ليبيا الثلاث. بالإضافة لحكومة وحدة وطنية. وهناك احتمال للاتفاق على إعادة توزيع المؤسسات السيادية، وهو أمر تم التباحث فيه باجتماعات بوزنيقة في المغرب حيث يتم التشارك في المؤسسات الوطنية الرئيسية بين المناطق الثلاث، الغرب والشرق والجنوب. وهذا ليس مجرد توزيع المناصب على المناطق والمدن ولكن تحويل المسؤولية للمؤسسات الرئيسية مثل المصرف المركزي والمحكمة العليا إلى المناطق وبالتساوي مع العاصمة. وسيكون هذا بمثابة رد على تهميش المناطق خلال حقبة القذافي الذي كرس السلطة والثروة في العاصمة. ورغم بداية الثورة في عام 2011 في الشرق ومحاولة بنغازي الحصول على موازاة بالسلطة مع طرابلس إلا أن الوضع ظل قائما خاصة بعد تمزق البلد إلى إمارات واقطاعيات تسيطر عليها الميليشيات والقبائل كل يريد حصته من الثروة والتأثير وبدا واضحا بعد هزيمة حفتر في المواجهة الحالية على مدينة سرت والهلال النفطي. ومع أن توزيع المؤسسات الرئيسية في البلاد قد يؤدي إلى إنهاء حالة الجمود أو المأزق الذي تعيشه البلاد إلا أن تحركا كهذا قد ينتهي بتأكيد خطوط الصدع الحالية في البلد وتعميق الانقسامات الحالية بين المناطق الثلاث حيث باتت الهوية الجهوية تتقدم على الهوية الوطنية.

رفض حفتر

وحتى لو تم التوافق على هذه الصيغة التي قد ترضي مطالب الشرق إلا أن قوى في الغرب لن تتخلى بسهولة عن مؤسسات رئيسية مثل المصرف المركزي الذي يزعم أنه سيكون من حصة الشرق. وهناك قوى في الغرب ترفض أي اتفاق يقوي حفتر، واعتقدت هذه أن خروج قواته من طرابلس كانت تمثل نهايته وأن اتفاقية وقف إطلاق النار الأخيرة نفحت فيه الحياة من جديد. وتخشى هذه القوى من تقوية اجتماع تونس حفتر وتعيد إلى عقله فكرة السيطرة على كل ليبيا من جديد. ويظل حفتر نفسه عائقا، فهو قد لا يرضى عن أي صيغة جديدة رغم وجود أطراف في الشرق تدعمها. ويرفض حفتر أي دور للإسلاميين في المحادثات مع أنه سمح للسلفيين المعروفين بالمداخلة بالنشاط وأعطاهم اليد الحرة لكي يفرضوا أيديولوجيتهم المتشددة على الفضاء الديني في الشرق.

الخارج

ولهذا السبب فحالة عدم الثقة لا تزال قائمة. ولا بد من الحديث هنا عن العامل الخارجي الذي أصبح بيده الحل والقرار، خاصة روسيا وتركيا اللتان لن توقفا دعم الجماعات الوكيلة عنها في ليبيا، كما أنهما لن تسحبا قواتهما من البلاد في مدة 3 أشهر حسب اتفاق وقف إطلاق النار. وتقول تركيا إن وجودها ليس أجنبيا أو عبارة عن مجموعات مرتزقة، بل جاء بناء على اتفاق مع الحكومة الشرعية، ولهذا لا تزال تعزز وجودها العسكري. وربما لجأت الأمم المتحدة إلى سلاح العقوبات على الدول التي تعرقل اتفاق وقف إطلاق النار، مع أن تجربة مراقبة حظر تصدير السلاح على البلاد كانت فاشلة وبشكل ذريع. والجديد في اجتماع تونس هو روح الحوار لكنها ليست كافية لكسر حالة عدم الثقة وربما انتهى بخلق شكل من الحكم في ليبيا بدون نفوذ أو شرعية.

من ينهي التدخل الأجنبي؟

وتؤكد تصريحات وزير الداخلية على البعد الخارجي في السلم المحلي، فقد نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” (27/10/2020) عن فتحي باشاغا، إن اتفاق وقف إطلاق النار لن يظل قائما طالما بقيت الدول الخارجية تتدخل في الشأن الليبي. وأضاف أن التدخل الخارجي وعدم وجود الدعم الدولي الكافي لتطبيق الاتفاق يعدان أكبر تحد له. وتكشف تصريحات باشاغا الذي لم يسم هذه الدول الخارجية عن الحرب بالوكالة التي تخوضها مصر وروسيا والإمارات في ليبيا من خلال دعم حفتر. وفي وقت دعمت فيه تركيا حكومة طرابلس، وضخت هذه الأطراف الخارجية المال والمرتزقة من سوريا والسودان وتشاد وروسيا، وكانت موضوعا لانتقاد الخبراء في الأمم المتحدة بسبب عدم احترامها لحظر تصدير السلاح إلى ليبيا. وقال باشاغا إن حفتر لم يكن ليشكل تهديدا لولا تخلى عنه الداعمون الخارجيون له. وعلق قائلا: “هو خطير بسبب الدعم الدول الخارجية له والتي تقدم له الأسلحة والمعدات العسكرية”. وعبر باشاغا الذي يعتبر مسؤولا بارزا في حكومة الوفاق عن أمله بمغادرة كل الأطراف الخارجية بلاده. بالإضافة للدفاعات الصاروخية والأسلحة والمرتزقة. فبعد سلسلة من الهزائم التي تعرض لها حفتر أرسلت روسيا مقاتلات ميغ- 29 وسو-24 لدعم الجنرال المتمرد. وبعد ذلك هددت مصر بإرسال قوات عبر الحدود لو تقدمت القوات الموالية لطرابلس شرقا متجاوزة مدينة سرت. ونقلت الصحيفة عن طارق المجريسي المتخصص في ليبيا بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن وقف إطلاق النار يعكس اجماعا دوليا على ضرورة التوصل إلى حل سياسي للمشكلة. وقال إن هناك حاجة للضغط الدولي على القوى الأجنبية لمغادرة ليبيا “من سيطلب من الأتراك والروس المغادرة” و “الأتراك يرسلون يوميا الطائرات العسكرية والروس يبنون الأنظمة الدفاعية من سرت حتى الجفرة، فهل سيتخلون عنها؟” إلا أن باشاغا يرى أن الدول التي راهنت على انتصار حفتر بدأت تراجع موقفها. وأضاف “هناك تغير في الموقف المصري، والنقطة الرئيسية لمصر كانت دائما الأمن القومي” في إشارة للحدود المشتركة بين البلدين. وقال إنه هناك ملامح إيجابية عن تغير في موقف موسكو. ولا يوجد أي تغير في موقف الإمارات التي تعتبر مصدرا لمعظم السلاح المتقدم الذي يصل إلى حفتر. وحتى لو خرجت القوات الخارجية فالتحديات تظل قائمة أمام البلد المنقسم بعد عقد من الحرب. وتعتمد حكومتا الوفاق وحفتر على مجموعة من الميليشيات التي رسمت لنفسها مناطق نفوذ في غياب الجيش الوطني العام لكل البلاد. وتحدث باغاشا عن خطط حكومة الوفاق لدمج الميليشيات التي لا سجل إجراميا لها في القوة الأمنية الحكومية وفتح المجال لها أمام تلقي التدريب الأمني والعسكري. ولكنه أضاف أن هناك حاجة لإنعاش الاقتصاد وتوفير فرص العمل. وقال “هناك حاجة لبرنامج على مستوى الدولة وليس وزارة الداخلية لإعادة تأهيل ودمج الأفراد” في المجتمع. ويعلق المجريسي أن مشكلة الميليشيات والتعامل معها تظل مهمة صعبة “فلديهم الأسلحة والمال والصلات وهم مثل المافيا” و “لهم وجود على أعلى المستويات في الدولة والتخلص منهم سيكون مهمة صعبة. وفي بعض المدن فهم مثل الجيش، ولو أصدرت أمرا لهم ولم يتبعوه فماذا ستفعل؟”.

مشكلة في المتوسط

وعلى العموم فبدون اجماع الأطراف المحلية وهي كثيرة على حل فستظل القوى الخارجية، خاصة أن كل واحدة منها لديها أهدافها ومصالحها في هذا البلد الذي لديه أكبر احتياط نفط في القارة الأفريقية ولا يبعد كثيرا عن جنوب أوروبا. فمن مصلحة الدول الأوروبية المسؤولة بالمقام الأول عن الفوضى بعد الإطاحة بالقذافي، استقراره ومنع تدفق المهاجرين إلى الدول الأوروبية. لكن غياب أمريكا سواء في ظل الإداراة السابقة والحالية التي تخبطت بين دعم حفتر ودعم حكومة الوفاق الوطني أعطى دولا الفرصة للعمل على تحقيق مصالحها، فروسيا تريد العودة للبلد الذي خسرته بعد الإطاحة بالقذافي، والإمارات تواصل لعب دورها التخريبي باسم مكافحة الإسلاميين أما تركيا فتدخلها مرتبط بالنزاع على منطقة شرق المتوسط ولاستعادة مكانتها في البلد حيث خسرت شركاتها المليارات في عقود البناء وإدارة المستشفيات بعد زوال النظام السابق. كما أن اتفاق تركيا مع حكومة الوفاق الوطني لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط هو جزء من محاولة تركيا الدفاع عن مصالحها بعدما استبعدت “حلف الشر” منه رغم حدودها الطويلة عليه. وكان اتفاق أنقرة- طرابلس في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 والذي عبد الطريق للدعم العسكري التركي مدعاة لتحالف آخر بين اليونان عدوة تركيا التاريخية ومصر في محاولة منهما لإلغاء المعاهدة التركية – الليبية. وباتت تركيا ومصر تنظران لمصالحهما في منطقة شرق المتوسط كجزء من عملية تنويع الاقتصاد طويلة المدى. وطالما بقي التدخل الخارجي حاضرا في ليبيا فلن يتم التوصل لاتفاق في المنطقة التي باتت مركز لعبة أمم على مصادرها المخزنة في قاع البحر. وكدليل على دور الدول الخارجية في قرار ليبيا إعلان فائز السراج، رئيس وزراء حكومة الوفاق عن سحب استقالته وبرر موقف بأنه طلب من أطراف دولية ومحلية.

تعليقات