رشيد خشـــانة – ستكون النخب الليبية غدا أمام امتحان عسير لاختبار قدرتها على التعالي عن المصالح الأنانية، الفئوية والمناطقية والايديولوجية، وتجنيب بلدها مصير الدولة الفاشلة.

تدخل الحوارات الليبية غدا في تونس، إلى مرحلة تجديد المؤسسات السياسية الانتقالية، تتويجا لمخاض استمر خمسة شهور، أي منذ انطلاق الاتصالات بين ممثلي حكومة الوفاق في الغرب ومجلس النواب في الشرق، في حزيران/يونيو الماضي. كثير من الخطوات تم قطعها في مسارات الحوار الثلاثة، السياسي والاقتصادي والعسكري/ الأمني، وتم خلالها التوقيع على عدة اتفاقات، أهمها اتفاق الوقف الدائم لإطلاق النار. والمؤكد أن ملتقى “الحوار السياسي الشامل” الذي ينطلق غدا سيُلامس منطقة حساسة تتمثل في تسمية رئيس حكومة جديد ليحل محل فائز السراج، وتعيين الأعضاء الثلاثة للمجلس الرئاسي، بدلا من التسعة الحاليين، بالإضافة لاختيار رئيس المجلس، بعدما كان السراج يجمع بين رئاستي الحكومة والمجلس الرئاسي. وفي الإطار نفسه سيُحدد “الحوار السياسي الشامل” مهلة زمنية يُرجح أن تكون 18 شهرا، لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، بعد استكمال جميع الخطوات القانونية والسياسية الممهدة لها.

غيـاب التوازن

هناك مآخذ كثيرة على الخطة الأممية التي هندست حوارات تونس، فانتقاء المشتركين أظهر ميلان الكفة لصالح التيار الديني، الذي قدر بعض العارفين حجمه بـ47 مشاركا من أصل 75 ما جعل تيارات وفئات أخرى، بينها نشطاء جمعيات مدنية ونقابات يحتجون، على تغييبهم. ويُعزى غياب التوازن إلى أن البعثة الأممية انتقت أسماء المشاركين أساسا من بين أعضاء مجلس النواب ومجلس الدولة، وهما هيكلان منتهيا الصلاحية منذ سنوات. كما أن المسؤولين السابقين في الدولة، الذين تم إدماجهم في لائحة المشاركين ليسوا من أصحاب السمعة الطيبة، فهم لم يتركوا انطباعا إيجابيا عن أدائهم، لا بل ولاحقت بعضهم تهم فساد.

واستغرب أكاديميون يُدرسون في جامعات ليبية مختلفة، تحدثوا إلى “القدس العربي” من تغييب هذه الفئة، بالرغم من قدرتها على اقتراح حلول لكثير من المسائل القانونية والاقتصادية والسياسية المطروحة على جدول الأعمال في تونس. واستطرادا كان من الممكن التنسيق مع مفوضية المجتمع المدني لانتقاء أسماء عناصر معروفة بنشاطها ونظافتها لكي يتم إشراكها في الحوارات. وفي السياق انتقدت الكاتبة والمحامية عبير منينة ما اعتبرته “غيابا كاملا للتنظيمات النقابية في كافة المسارات، بالرغم مما تمثله من مصالح قطاعات عريضة، تأثرت بشكل واضح بكل أزمات المرحلة، من افتقاد للشرعية وسوء توزيع للموارد الاقتصادية”. ورفضت منينة التعلل بغياب النقابات عن أرض الواقع وضعف دورها وقلة تأثيرها، من أجل إقصائها من الحوارات، مشيرة إلى أن “أغلب الأحزاب المشاركة هي تنظيمات بلا نشاط يذكر أو حتى كوادر، وهي قائمة على أشخاص فقط لا تتعدى أنشطتهم إصدار البيانات”.

مظــاهرات احتجاج

ما الدافع إذا إلى تلك الإقصاءات وسط تمثيل مُتضخم لفئات أخرى؟ تعزو الخبيرة فيرجيني كولومبيي، الباحثة في المعهد الجامعي الأوروبي في فلورنسا، ذلك السلوك إلى الهوة القائمة بين الشارع والقيادات السياسية، والتي تجلت في مظاهرات الاحتجاج على فساد الحكام في الشرق كما في الغرب، وانشغالهم بلعبة السلطة، وعجزهم عن تأمين الحاجات الأساسية للمجتمع، ما يُفسر كثرة انقطاعات الماء والكهرباء وشح السيولة في المصارف وانتتشار أكوام القمامة في المدن. ويمكن القول أيضا إن البعثة الأممية لا ترغب بفتح نقاشات حول اختيار المشاركين، ربما لأن الطبخة باتت شبه جاهزة، ما جعل اهتمامها مُنصبا على السعي إلى الحصول على تصديق المشاركين، بعد أخذ المحاصصات بين الغريمين، مجلس النواب ومجلس الدولة، في الاعتبار. وتؤشر الاتصالات التي سبقت مجيء المشاركين إلى تونس، إلى ملامح إعادة الهيكلة السياسية، التي تمت بلورتها في الأسابيع الأخيرة. والإسمان الأكثر ترددا هما رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عيسى المرشح للحلول محل السراج في رئاسة المجلس الرئاسي، ووزير الداخلية الحالي فتحي باشاغا المرشح لتولي رئاسة حكومة الوفاق، خلفا للسراج أيضا.

ومهدت للوصول إلى هذه الصيغة ثلاث دورات من الاجتماعات في بوزنيقة المغربية، بين وفدي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة (13+13) الأولى عقدت بين 6 و10 أيلول/سبتمبر الماضي، فيما عقدت الجولة الثانية بين 2 و6 تشرين الأول/أكتوبر، وكانت الأخيرة يومي الأربعاء والخميس الماضيين. وتزامنت الجولة الأخيرة مع وجود كل من خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة وعقيلة صالح في المغرب، حيث يبدو أن المغاربة ساهموا في ترطيب الأجواء والتقريب بين الجانبين بُغية تبني الصيغة المعروضة لتقاسم السلطات السياسية.

جولــة مكوكية

في السياق نفسه، شكلت الجولة المكوكية التي قام بها باشاغا على العواصم المؤثرة في الملف الليبي، خطوة حاسمة في وضع اللمسات الأخيرة على المشروع، الذي سيُعرض على المشاركين في “الحوار السياسي الشامل” بتونس، والذي يتعلق بإعادة هيكلة المؤسسات السياسية. في هذا الإطار زار باشاغا كلا من القاهرة واسطنبول وباريس وروما وموسكو والدوحة، فضمن دعما من الفرقاء جميعا، بالإضافة إلى التزكية الأمريكية. ولوحظ أن القاهرة التي كانت لا ترحب بأعضاء حكومة الوفاق، (هذا إن لم تحشرهم في خانة أعدائها “الإخوان”) استقبلت باشاغا استقبال كبار الزوار، حيث أجرى “محادثات معمقة” مع المسؤولين المصريين، أهمها بلا منازع مع رئيس المخابرات العامة المصرية عباس كامل، إذ قالت وسائل إعلام مصرية على إثرها، إن باشاغا “حصل على موافقة القاهرة على توليه رئاسة الحكومة الجديدة الموحدة، بعد الاتفاق على النقاط الأساسية موضع الخلاف”. كما زار عقيلة صالح بدوره القاهرة يوم الجمعة قبل الماضي، وتحاور مع المكلفين بالملف الليبي في فحوى المخرجات التي ستنبثق من منتدى “الحوار السياسي الشامل” في تونس. وهكذا يجوز القول إن “حفلة التعميد” في القاهرة كانت ممرا إجباريا لكل من صالح وباشاغا لتولي المنصبين اللذين وُعدا بهما.

لكن هل يمكن صنع الجديد من القديم؟ وهل تكفي المعمودية لتسوية المسائل الشائكة على غرار حل الميليشيات، وضم عناصرها إلى المؤسستين العسكرية والأمنية، وتجميع السلاح الثقيل وسواها من المسائل الدقيقة؟ وطالما أن الحكومة، الحالية والمقبلة على السواء، لا تملكان وسائل الضغط والردع لحمل أمراء الحرب على الانصياع للاتفاقات وتنفيذ الإجراءات العملية، التي توصلت لها اللجنة العسكرية في غدامس، فإن الدولة الليبية ستبقى من دون شوكة، وبالتالي ستفقد ميزتها الأولى، وهي احتكار العنف الشرعي.

دولــة بلا أنيــاب ولا مخــالب

لقد اعتبرت الأمم المتحدة أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه، بعد اجتماعات عسكرية نادرة وجها لوجه، في غدامس (465 كيلومترًا جنوب غرب طرابلس) بين الاثنين والأربعاء الماضيين، “نقطة تحول تاريخية في الحرب” لأن هذا الاتفاق يحمل المقاتلين الأجانب والمرتزقة على مغادرة البلد، خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. ولكن مرة أخرى، أي قوة ستتولى التنفيذ على الأرض، فجميع الدول الإقليمية لا ترغب بالتوغل في الصراع الليبي-الليبي للقيام بمهمة حفظ السلام، لأنها لو وضعت أقدامها في هذا المنزلق، لن تعرف متى ستخرج منه. كما أنها لا تعرف متى ما سُجلت انتهاكات لحظر الأسلحة، الذي تفرضه الأمم المتحدة، من سيُحاسبُ ومن سيُعاقبُ؟ وقد تكون الحرب العبثية، التي تخوضها فرنسا مع الجماعات المسلحة في مالي، منذ خمس سنوات، أنموذجا عكسيا يقطع رغبة أي قوة إقليمية أو دولية بلعب دور حفظ السلام في ليبيا.

أما عن إخراج المرتزقة من البلد، فالأمم المتحدة أول من يدرك صعوبة هذه المهمة، إذ أن خبراء كلفتهم بإعداد تقرير رُفع إلى مجلس الأمن، أكدوا وجود عناصر “فاغنر” في ليبيا وقدروا عددهم بـ1200 مُحاربا. وأنجز خبراء آخرون تحقيقا ثانيا بعد الأول، أظهر أن تدفق المرتزقة الروس استمر، وقدروا عددهم الإجمالي بـ2000 مرتزق، بحسب الخبير الروسي أناتولي نسميان. وفي الجهة المقابلة أيضا، أظهر تحقيق لوكالة الأنباء “رويترز” أن مئات المقاتلين السوريين تدفقوا على ليبيا منذ مطلع العام الجاري، ولم يغادروها بعد انتصار قوات “الوفاق” على قوات حفتر. وبالنظر إلى غموض هذه المسألة الجوهرية، بسبب وجود خليط من الميليشيات، التي تشكل ما يسمى بـ”حرس المنشآت النفطية” دعت الأمم المتحدة إلى اجتماع خاص في مركز تصدير النفط في البريقة (شرق) يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.

حقـل “الشــرارة” يرفـع ويُخفـض

المجال الوحيد الذي تحقق فيه تقدم ملموس لا مراء فيه، في الحوارات الليبية الليبية، هو القطاع النفطي، الذي أعاد للاقتصاد الليبي القدرة على التنفس، فليبيا بلد لا ديون عليه، ولذا ما أن تقشعت سحب الحرب حتى استُؤنف ضخ النفط، وأعيد تشغيل الحقول، بعد أكثر من عشرة شهور من الغلق، ما أعاد تدفق الايرادات على مصرف ليبيا المركزي، الذي كانت خزائنه شبه خاوية. ويُقدر مستوى الإنتاج حاليا بأكثر من 800 ألف برميل في اليوم، بعد أن نزل إلى 100 ألف برميل على إثر دخول عناصر “فاغنر” إلى الحقول. لكنه لم يستعد مستواه في فترة ما قبل الأزمة والمُقدر بـ1.2 مليون برميل في اليوم. ولاستئناف ضخ النفط الليبي آثاره المباشرة، سلبا وإيجابا، في سوق النفط العالمية، إذ أن تشغيل حقل “الشرارة” كفيل وحده بترفيع الأسعار أو خفضها في بورصات النفط. وقدرت إدارة هذا الحقل أن يرفع تشغيله إنتاج ليبيا من النفط بحوالي 350 ألف برميل يوميا. لكن ما زالت هناك نقاط شائكة رئيسية في هذا الحقل أيضا، من أبرزها كيفية إدارة ملف النفط، وتقاسم إيراداته عبر مصرف ليبيا المركزي، ومقره في طرابلس.

ستكون النخب الليبية غدا أمام امتحان عسير لاختبار قدرتها على التعالي عن المصالح الأنانية، الفئوية والمناطقية والايديولوجية، وتجنيب بلدها مصير الدولة الفاشلة. ولن يتأتى لها ذلك إلا بانتزاع استقلال قرارها ومجابهة التحديات، القائمة والآتية، بالاقدام على تنازلات متبادلة، والتحلي بما يكفي من الشجاعة ووضوح الرؤية.

تعليقات