رشيد خشانة – في الوقت الذي ينتشر فيه فيروس كورونا المستجد في الجسم الليبي، تتسابق القوى العظمى لانتزاع “حصصها” من سوق إعادة الإعمار، وسط تقدم وئيد للمحادثات السياسية داخل ليبيا وخارجها.

حذر مدير المركز الوطني لمكافحة الأمراض الدكتور بدر الدين النجار من أن مدن طرابلس ومصراتة وزليتن تشهد انتشارا مجتمعيا للفيروس، ما تسبب في تسجيل مئات الحالات في تلك المدن، مُلوحا باللجوء إلى الإغلاق العام في حال استمرار تفاقم الوضع الوبائي. ومن آخر ضحايا الفيروس رئيس أركان الجيش الأسبق يوسف المنقوش، وقبله قائد قوات الصاعقة اللواء ونيس بوخمادة.

بموازاة ذلك، تفاقمت الهجمات المسلحة في الفترة الأخيرة على مؤسسات تمثل هياكل سيادية، في مقدمها المؤسسة الوطنية للنفط، التي هاجمت جماعة مسلحة مقرها المركزي في العاصمة طرابلس، على إثر خلاف بين رئيسها مصطفى صنع الله وحاكم مصرف ليبيا المركزي صديق الكبير. كما أعلنت الشركة العامة للكهرباء أن مجموعة خارجة عن القانون، لم تُسمها، هاجمت محطة الرويس واعتدت بالضرب على مشغليها وهددتهم بالقتل. وأوضحت أن المجموعة أجبرت مشغلي المحطة على فصل بعض الخطوط الرئيسية، وأطلقت وابلًا من الرصاص على أجهزة المحطة، ما أدى إلى تلفها وخروجها من الخدمة. وليست هذه العملية الأولى التي تتعرض فيها محطات الكهرباء في ليبيا لأعمال عنف وتعدٍ على مشغليها.

وفي معلومات مصادر ليبية مطلعة أن محاولة الاقتحام التي قام بها مسلحون للدخول عنوة إلى مبنى المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس، أتت على خلفية تغييرات إدارية جرت في رئاسة وعضوية لجان الإدارة في شركات نفطية تابعة للمؤسسة.

وفيما أكد وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني فتحي باشاغا الخميس أن الوزارة تعمل على إحياء مشروع تركيب آلات متطورة لتحديد البصمة، بُغية ضبط الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، بالإضافة إلى تركيب منظومة متطورة للتعرف على الوجوه البايومترية، من أجل تحسين مستوى العمل الأمني، ما زالت الميليشيات هي المسيطرة على الميدان، مُمتنعة عن نقل أسلحتها إلى خارج المدن والمناطق الآهلة بالسكان. لا بل إن الاشتباكات ما زالت تندلع من وقت إلى آخر بين تلك الميليشيات، ومنها المعارك التي حدثت في الأيام الأخيرة بين فصيلين مسلحين في سبها (جنوب).

والظاهر أنه لا مجال للقضاء على الجماعات المسلحة سوى بمعاودة بناء مؤسسات الدولة، وفي مقدمها الجيش الاحترافي، الذي تتدرب قواته حاليا في إيطاليا وتركيا وفرنسا. وتتمثل العقبة الكأداء في هذا الطريق في ترجمة مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس إلى قرارات تُعيد تشكيل أجهزة الحكم. وطُرحت خلال الجلسات الافتراضية بين المشاركين ورقة تحمل عنوان “الخيارات المتاحة لآليات الاختيار” ومن ضمن ما اقترحته آلية تمكن من اختيار المجلس الرئاسي، الذي سيكون مؤلفا من ثلاث شخصيات، هي الرئيس ونائبيه، ورئيس وزراء منفصل.

وتمنح هذه الصيغة دورا محوريا للمجمعات الانتخابية، على أن يحصد المرشح ما لا يقل عن خمس تزكيات. أما بالنسبة للحكومة فتتم تسمية المرشحين من خلال جميع الأعضاء المشاركين في الملتقى، ثم يجري التصويت العام عبر جولتين. وهناك خيار آخر يتمثل في وضع قائمة بأربعة أسماء تشير بوضوح إلى المرشحين لمنصب رئيس الوزراء ورئيس المجلس الرئاسي ونائبيه، يرشحهم ما لا يقل عن خمسة عشر عضواً من المشاركين، ثم تقوم الجلسة العامة بالتصويت عبر جولتين على نحو يُمكن من اختيار القائمة الفائزة، وإذا تم تقديم قائمتين فيتم التصويت في جولة واحدة، أما إذا تم ترشيح قائمة واحدة فتعتبر فائزة تلقائيا.

وبعد محاولات من أعضاء مجلس النواب بجناحيه الشرقي (طبرق) والغربي (طرابلس) للاتفاق على آليات اختيار رؤوس السلطة التنفيذية، خلال الاجتماعات التشاورية، التي استضافتها أخيرا مدينة طنجة، بقيادة ستيفاني وليامز، تعذر الوصول إلى توافق، فأرجئ البت في الأمر إلى اجتماع سيُعقد الأسبوع المقبل في مدينة غدامس (جنوب غرب) التي تقع في نقطة تجمع بين الحدود التونسية والجزائرية مع ليبيا.

شبهات تلقي رشى

في غضون ذلك، حامت حول بعض المشاركين الخمسة والسبعين في جولات الملتقى السياسي الليبي، شبهات تلقي رشى، ما حمل وكيلة رئيس بعثة الدعم الأممية ستيفاني وليامز على إحالة التقارير التي تتحدث عن تلك الشبهات على فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة، وتواصلت في الآن نفسه مع القائم بأعمال النائب العام الليبي للتثبت من دقة الشبهات. وتوعدت من تثبت في حقهم التهمة بعقوبات لم تُحددها.

ظل موضوع مكافحة الفساد عنوانا بارزا ضمن التطورات الأخيرة، بعدما اعتقلت الأجهزة الأمنية مدير مطار مصراتة (غرب) بسبب سماحه بدخول علي ساسي، المدير التنفيذي السابق لشركة الكهرباء دون توقيفه، مع أن مكتب النائب العام أصدر أوامره منذ أكثر من ثلاثة شهور بضبطه ومنعه من السفر، إلى جانب 16 مسؤولا آخرين من الشركة، على رأسهم الرئيس السابق لمجلس الإدارة عبد المجيد حمزة. وأفادت بوابة “الوسط” الليبية أن مكتب النائب العام يسعى للوقوف على أسباب أزمة الكهرباء، بناءً على ما ستُسفر عنه نتائج التحقيقات، للتأكد من السلبيات التي قد تكون شابت عمل إدارة الشركة العامة للكهرباء والأضرار الناجمة عن سوء الإدارة.

أكثر من ذلك طاولت الشبهات رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، الذي نفى بشدة الاتهامات، فيما أصدر ديوان المحاسبة بيانًا، عبر منصته الرسمية، نفى فيه أيضا ما تداولته بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، مُكذبا (أي الديوان) أنه نشر تقريرًا يتضمن طلبًا لإحالة السراج، ومسؤولين آخرين، إلى التحقيق في قضايا فساد. واعتبر أن نشر مثل هذه التقارير، في هذا التوقيت، “ما هو إلا لتسوية حسابات سياسية معينة” من دون إيضاحات.

صفقات…صفقات

تحت جُنح انشغال الرأي العام الليبي بمجريات العملية السياسية، في أكثر من محور من المحاور والمسارات المُنبثقة من مؤتمر برلين، تحُثُ القوى العظمى الخطى للاستحواذ على “حصصها” من سوق إعادة الإعمار. وقد برز ذلك في لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغاي لافروف مع رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح في موسكو، الثلاثاء الماضي، حيث كان في زيارة رسمية، تلبية لدعوة من مجلس الدوما. وأبى لافروف إلا أن يُعبر للمسؤول الليبي عن عزم الشركات الروسية والمستثمرين الخواص على “استئناف أنشطتهم في ليبيا، بعد تطبيع الوضعين العسكري والسياسي، على أساس المنفعة المتبادلة” حسب ما نقل عنه الإعلام الروسي. وكان متوقعا أن تسعى موسكو إلى قطف ثمار وقوفها إلى جانب صالح وحليفه الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، عن طريق آلاف المرتزقة الروس، الذين أرسلتهم تحت غطاء الشركة الأمنية “الخاصة” فاغنر، ما أدى إلى تغيير الموازين العسكرية لغير صالح حكومة الوفاق الوطني.

وسعى الأتراك، غرماء الروس في ليبيا، إلى حصد مكاسب مماثلة، لكن من خلال القطاع الخاص، إذ وقع المجلس الليبي لرجال الأعمال مذكرة تفاهم مع منظمة “الموصياد” التركية (اتحاد رجال الأعمال) لمناسبة حضور وفد من المجلس الليبي لرجال الأعمال فعاليات معرض “الموصياد” التجاري في اسطنبول. وما مذكرة التفاهم هذه سوى بداية، فالمجموعات التجارية والصناعية التركية وضعت بعدُ قدما ثابتة في أسواق الغرب الليبي، مسترجعة بعض مواقع انتشارها على أيام معمر القذافي.

أما الأمريكيون فينظرون إلى ليبيا من الزاوية الاستراتيجية أكثر من نظرتهم لها من زاوية الصفقات التجارية أو مشاريع إعادة الإعمار. ومن ضمن هذه الرؤية ركز التقرير رُبع السنوي لمكتب المفتش العام بوزارة الخارجية الأمريكية، المقدم إلى الكونغرس، على تتبُع تحركات كل من “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”داعش” في ليبيا. لكن توقعات المبعوث الأمريكي السابق إلى ليبيا جوناثان واينر، بأن تعتمد إدارة بلاده الجديدة، بقيادة جو بايدن، مقاربة “براغماتية في ليبيا بدل التجاهل زمن إدارة ترامب” تُعتبر نظرة بعيدة عن الواقع، لأن واشنطن عادت إلى ليبيا ما أن تبلورت مؤشرات التدخل الروسي عبر”فاغنر” في 2017. وكانت غادرتها بعد مقتل سفيرها كريستوفر ستيفانز في مدينة بنغازي يوم 11 ايلول/سبتمبر 2012 على أيدي عناصر تنظيم “أنصار الشريعة” وهي العملية التي أطاحت بوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بعد بضعة شهور. والأرجح أن السياسة الأمريكية ستستمر على الخط الذي سارت عليه حتى اليوم، والذي يُناقض موقف الرئيس المنتهية ولايته ترامب، الذي هاتف حفتر، بعد إطلاق هجومه على طرابلس، ليدعمه معنويا.

بالمقابل كان الخط السياسي، الذي سلكته وزارة الخارجية مختلفا، إذ غضت واشنطن الطرف عن التدخل التركي، الذي أعاد التكافؤ إلى الميزان العسكري، في سياق استراتيجيتها الرامية لاحتواء التمدد الروسي في جنوب المتوسط وشمال أفريقيا. وربما ستكون إضافة الإدارة الديمقراطية المقبلة، متمثلة بمزيد من الاهتمام بجرائم الحرب والاعتداءات على حقوق الإنسان في ليبيا، كي لا ينعم مرتكبو تلك الجرائم بالإفلات من العقاب.

من هنا يشكل تعيين أنتوني بلينكين وزيراً للخارجية تعزيزا لهذه المقاربة، لاسيما أنه سيعتمد على خبير في الشؤون الليبية على عهد الرئيس السابق أوباما، هو جاكوب سوليفان، الذي “يملك” ملفات المنطقة، وبالأخص الملف الليبي. ولذلك، فالأرجح أن أمريكا ستسلط مزيدا من الضغط على المتحاورين الليبيين، كي يقدموا تنازلات متبادلة تفتح الطريق لإجراء انتخابات عامة في الميقات المتفق عليه، أي في غضون ثلاثة عشر شهرا.

تعليقات