رشيد خشانة – تبدو ليبيا وهي تستقبل الذكرى العاشرة للانتفاضة التي أطاحت بحكم القذافي طاردة لأبنائها ونخبها، إما من قناة الهجرة الشرعية، أو النزوح من مناطقهم إلى ملاذات آمنة داخل البلد.

مع أن الملتقى السياسي الليبي أفرز في جنيف قيادات تنفيذية جديدة، ستسهر على تنظيم استفتاء على الدستور وانتخابات عامة، فمن الصعب أن يكون البلد جاهزا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في الميقات المُحدد لها، أي الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل.
وبالرغم من أن رئيس المفوضية العليا للانتخابات الدكتور عماد السائح أكد للمشاركين في حوار جنيف أن المفوضية جاهزة لإجراء الانتخابات في موعدها، فإن الأخيرة تواجه صعوبات سياسية وفنية قد تعرقل قيامها بهذه المهمة على الوجه الأكمل. ومن تلك المصاعب أن المفوضية تحتاج إلى 50 مليون دينار ليبي (حوالي 10 ملايين دولار) لتغطية نفقات الاقتراع. وأجرى السائح في هذا الإطار سلسلة من المناقشات مع المجلس الرئاسي، كما اجتمع مع بعثات دبلوماسية غربية، من الدول التي سبق أن قدمت الدعم للمسارات الانتخابية، لكن لم تُعرف نتائجها. وكان السائح طلب في إحاطة لرئاسة البرلمان في طُبرق، مطلع 2019 توفير اعتماد بـ40 مليون دينار (حوالي 8 ملايين دولار) لإجراء الاستفتاء على الدستور.
هذا عن الشروط المادية للاقتراع على مشروع الدستور، الذي لابد أن يسبق الانتخابات، أما العوائق السياسية، فتبدأ من مخاطر انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار، إلى الفصل القائم بين الشرق والغرب، إلى نزع سلاح الميليشيات، وإخراج الأسلحة الثقيلة من المدن.
وسيتعين على عبد الحميد الدبيبة عرض حكومته على البرلمان، قبل السادس والعشرين من الشهر الجاري، من أجل نيل الثقة. وفي هذا الإطار أتت زيارة رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد المنفي إلى بنغازي، ولقاؤه رجل الشرق القوي الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في مقره بالرجمة.
ويبدو أن خطوة كهذه تحظى بدعم العواصم المؤثرة في القرار الليبي، وخاصة الأمريكيين والأوروبيين، الداعمين لإقامة سلطة جديدة ممثلة لجميع الأقاليم الليبية. وتمنى الأمريكيون على لسان سفيرهم لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، أن تكون الحكومة مصغرة ومؤلفة من تكنوقراطيين، لتفادي الصراعات بين الأحزاب، وتسريع خطوات نيل الثقة من مجلس النواب.

تقارب شرق-غرب؟

في هذا الإطار يمكن أن يتوقع المرء مزيدا من التقارب بين الشرق والغرب، فلن يكون فائز السراج، الذي تعهد بمقاطعة الجنرال حفتر، والتزم بتعهده حتى الآخر، هو من سيحكم في طرابلس، وإنما رئيس الحكومة الجديد الدبيبة، الذي كان من أركان النظام السابق، وهذا قاسم مشترك مهم بينه وبين الحاكمين في بنغازي. والأرجح أن الدبيبة سيسعى في الاتصالات التي يُجريها حاليا من أجل تشكيل حكومته، إلى إشراك جميع ألوان الطيف السياسي، بمن فيهم زملاؤه السابقون في منظومة القذافي. وفي السياق ترددت أيضا معلومات غير مؤكدة مفادها أن الدبيبة زار حفتر في مقره بالرجمة، خلال الفترة الماضية، بوساطة من بعض رجال الأعمال المصريين.
ولوحظ أن الحكومة الحالية بادرت، هي الأخرى، ببعض التقارب مع القوى المسيطرة على المنطقة الشرقية، من خلال وضع موازنة موحدة للشرق والغرب، للمرة الأولى منذ ست سنوات، وإن كانت مؤقتة. فقد أصدر مجلس الوزراء برئاسة السراج، مطلع الشهر الجاري، موازنة لمدة شهرين وُصفت بـ”الوطنية” كونها شملت كامل مناطق ليبيا. وحظيت هذه الخطوة، التي سعت إليها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، بالمؤازرة من المؤسسات المالية الدولية والفريق الاقتصادي المشتغل على متابعة عملية برلين.
ويُعزى الاكتفاء بشهرين فقط بدل سنة كاملة، إلى الرغبة بالسماح للسلطة التنفيذية الموحدة، المشكلة حديثًا في جنيف، باتخاذ قرار في شأن الموازنة الكاملة للعام 2021.

تحريك دواليب الاقتصاد

تعززت تلك الخطوة من حكومة السراج بثانية لا تقل عنها أهمية، تمثلت بمنح قرض بلا فوائد للمصارف التجارية، من أجل تحريك الدورة الدموية المعطلة للاقتصاد، جراء ست سنوات من الحرب الأهلية. وأتت خطوة صرف القرض ثمرة لقرار اتخذه مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، في الأول من شباط/فبراير الجاري، يقضي بتخصيص قرض بدون فوائد للمصارف التجارية الليبية، من أجل الحد من تراكم الصكوك غير المُحصلة. غير أن الخبراء الاقتصاديين يُحذرون من أن هذا القرار لا يعالج السبب الكامن وراء ما يعرف بأزمة الائتمان، لكنه سيقلل فقط من الضغط على النظام المصرفي. ويندرج هذا القرار ضمن أخرى تبدو ذات طابع اقتصادي، غير أن دلالاتها وأبعادها السياسية مهمة، خصوصا في مرحلة ما بعد تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة. ومن تلك القرارات توحيد سعر صرف العملة الليبية، وإعادة تنشيط مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، والتقدم الذي تحقَق في المراجعة المالية لكل من مصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الليبية للاستثمار، فهذه خطوات ضرورية لإجراء الإصلاحات اللازمة، الرامية لتحسين إدارة عائدات النفط الليبي، وهو المصدر الأول لإيرادات البلد.
وكان للتقارب الليبي-الليبي استتباعات إقليمية، إذ أن الجزائر، أقدمت بعد الإعلان من جنيف، عن أسماء الفائزين بالمناصب التنفيذية العليا، على إعادة فتح أهم معبر بري بين البلدين، وهو الدبداب/غدامس، للنشاط التجاري، في أعقاب سبع سنوات من غلق الحدود، بسبب خوف الجزائريين من وصول شرار الحرب الأهلية المحتدمة في ليبيا، إلى حدودهم. وسرعان ما تم إشعار التجار في المدن الليبية القريبة من الحدود مع الجزائر، وخاصة سبها وأوباري وغات، بأن المعبر سيُعاد فتحه في وجه المبادلات التجارية، في غضون أيام، بعد اتفاقات بين سلطات البلدين في هذا المعنى.
ويشي هذا الموقف ببدء تعديل مهم في السياسة الجزائرية إزاء الوضع المعقد في ليبيا، إذ يُرجح أن صناع القرار في الجزائر، يعتبرون الاتفاقات التي تم التوصل إليها في جنيف، جدية، وهي التي انتخب على أساسها أعضاء المجلس الرئاسي الجدد ورئيس الحكومة المكلف. ومن هذه الزاوية ندرك مغزى المكالمة التي أجراها وزير الخارجية الجزائرية صبري بوقادوم مع الدبيبة، فور الإعلان عن نتائج الاقتراع.
ولئن أبرز وزير التجارة الجزائري كمال رزيق، أن معاودة فتح المعابر الحدودية مع ليبيا يندرج في إطار الشروع في تنفيذ الإجراءات العملية لدخول منطقة التجارة الحرة الأفريقية إلى النشاط الفعلي، وهي السوق التي انطلقت في الأول من كانون الثاني/يناير الماضي، فإن القرار يرتدي أبعادا استراتيجية، إذ أن الجزائريين كانوا يتوجسون من تسلل الجماعات المسلحة والأسلحة من مالي والنيجر عبر الحدود مع ليبيا، عندما شددت عليها الخناق القوات الفرنسية المنتشرة هناك.
أكثر من ذلك، تبدو التشكيلة الجديدة المؤلفة من المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي، والدبيبة رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية، قريبة من انتظارات الجزائريين، الذين يثقون في رجال القذافي أكثر من ثقتهم وحماستهم للسياسيين الذين جاؤوا بعده.

مع القذافي

من هذه الزاوية لاقت تسمية الدبيبة على رأس الحكومة، ارتياحا في الجزائر، وهو الذي قاد “المؤسسة الليبية للإستثمار” طيلة سنوات على أيام حكم القذافي. وقد أعيد تنظيم المؤسسة، التي تدير ما قيمته 67 مليار دولار، قبيل انتفاضة 2011 فصارت صندوق الثروة السيادي، الذي يعمل على إيجاد مصادر متنوعة للثروة، لصالح الأجيال المقبلة، من خلال الإستثمار على الصعيد الدولي، بُغية تحقيق عوائد مالية مستقرة طويلة الأجل.
غير أن إدارة الدبيبة للصندوق السيادي شابته مخالفات على ما يقول خصومه. وأشار الباحث طارق المغريسي من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إلى أن المرء يشتم رائحة فساد، في محيط رجل الأعمال عبد الحميد الدبيبة، وابن عمه علي، صاحب الشركات والمقاولات الكبيرة، والذي أسندت له مشاريع ضخمة لبناء آلاف المساكن على عهد القذافي.
وأكد الباحث الليبي محمد الجارح، من جانبه، في تصريحات لبوابة “الوسط” الإخبارية، أن رئيس الوزراء شخصية عليها شبهة فساد وفق ما كتبته الصحافة البريطانية، إذ وصفته صحيفة “التايمز” بأنه “أكبر صاحب عملية غسل أموال في تاريخ تحقيقات القضاء الإسكتلندي”. وأكدت أن اسمه وارد في التحقيقات التي تقوم بها الأمم المتحدة حاليا، في قضايا تتعلق بالفساد.
من هنا ستكون المهمة الأولى للحكومة الجديدة هي نيل الثقة من مجلس النواب، وتبديد أية شبهات فساد تحيط برئيسها وأعضائها. ومعلوم أن السراج لم يبادر بالتوجه إلى مجلس النواب في بنغازي ليطلب منحه الثقة بسبب علاقة العداء بينه وبين الجنرال حفتر، وحليفه عقيلة صالح. ولا يُعرف حاليا ما إذا كان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح سينجح في عقد جلسة للبرلمان من أجل مناقشة مسألة منح الثقة للحكومة، التي فاز أعضاؤها على حساب قائمته في جنيف، وأطاحت به من رئاسة المجلس الرئاسي، كما أنهت حلم فتحي باشاغا بالفوز برئاسة الحكومة الموحدة. ومازال الخلاف قائما حول المكان الذي سيجتمع فيه النواب، هل يكون طُبرق، كما يرغب عقيلة صالح، أم صبراتة في أقصى الغرب نزولا عند رغبة خصومه، أم سرت مثلما يدعو لذلك فريق ثالث؟

اختراق الجدران السميكة

على هذه الخلفية أقدم رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد المنفي على اختراق الجدران السميكة بين سلطات الشرق والغرب، ليجتمع مع حفتر، ويحصل منه على دعم غير متوقع للسلطات التنفيذية الجديدة، وهي خطوة لا يمكن أن تتم من دون مقابل سياسي، قد يكون تسمية وزراء مقربين من الجنرال المتقاعد في الحكومة الموحدة التي سيقودها الدبيبة. وسيضطر الأخير خلال الأسابيع الثلاثة الممنوحة له من أجل استكمال تكوين فريقه الحكومي، إلى القبول بتنازلات قد لا ترضى عنها القوى المتنفذة في المنطقة الغربية، ومن بينها تيار الإخوان الذي يدعمه بقوة. وفي السياق أيضا ترددت معلومات غير مؤكدة مفادها أن الدبيبة زار حفتر في مقره بالرجمة، خلال الفترة الماضية بوساطة من بعض رجال الأعمال المصريين.
وستكون لهذا التجاذب امتداداته على الصعيدين الإقليمي والدولي، فالتقارب بين الحكومة الموحدة والمجلس الرئاسي من جهة وقيادات الشرق من جهة ثانية، يحظى بدعم مصري وأمريكي وفرنسي، لكن الأتراك سيعارضونه على الأرجح. وستأخذ هذه المسألة بعدا أكثر تعقيدا مع رفض تركيا سحب مدربيها ومستشاريها العسكريين وقواتها من غرب ليبيا، خاصة بعدما اشترط رئيسها اردوغان إخراج القوات الأجنبية الأخرى، قبل سحب قواته وخبرائه. والأرجح أنه لن يسحبهم متعللا بأن مذكرة التفاهم التي وقع عليها في طرابلس مع السراج في 2019 ما زالت سارية المفعول.
وستؤثر مواقف القوى الإقليمية والدولية في العلاقات بين رؤوس الحكم الأربعة، وهم الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائباه عبد الله اللافي وموسى الكوني، فهم ليسوا على قلب رجل واحد، بل إن كل فرد منهم يجُرُ خلفه عقدة من التحالفات الداخلية والخارجية، التي قد تُذكي الخلافات داخل الحكومة والمجلس الرئاسي.
على هذه الخلفية ستتصدر أولويات الحكومة الجديدة، مكافحة وباء كوفيد-19″ وخاصة العمل على تحصيل اللقاح اللازم، واستعجال حملة التطعيم، مع توزيعها توزيعا عادلا بين المناطق. واستطرادا ستهتم الحكومة بالمصاعب الحياتية، وفي مقدمها انقطاعات الكهرباء، وتحسين البنية الأساسية في قطاعي الصحة والتعليم، والتخفيف من المعوقات اليومية. أما على الصعيد السياسي فإن الأولوية ستُمنح لإعداد الاستفتاء على مشروع الدستور، وهو التحدي الأكبر الذي يواجه الطاقم الحكومي الجديد، والذي تُطرح في شأنه اجتهادات كثيرة ومتضاربة.

تعليقات