رشيد خشــانة – من الصعب أن تنتهي مهمة الحكومة الجديدة في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل، مثلما هو مقرر، وبالتالي ستكون حكومة انتقالية أسوة بسابقاتها.

بعدما استطاعت روسيا وفرنسا أن تعطلا استصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي، تُلزم الأطراف المتحاربة في ليبيا، بوقف المعارك، انهار ذلك الحاجز، وأصبح الحل السياسي مسارا مفروضا على جميع الفرقاء، لا سيما بعد منح مجلس النواب الثقة للحكومة الجديدة، برئاسة عبد الحميد دبيبة، والتزام الجميع بوقف إطلاق النار. لكن الطريق إلى الاستقرار ما زالت طويلة، ولا تخلو من المطبات، فما دمرته عشر سنوات من الحرب الأهلية، في جميع المجالات المعنوية والمادية، لا يمكن إعادة بنائه في وقت قصير.
ولاحظت الخبيرة الإيطالية في الشؤون الليبية كلاوديا غازيني، أن التصويت لمنح الثقة تركز حصرياً على رئيس الوزراء المكلف وطاقمه الوزاري، بينما لم يكن هناك أي ذكر للمجلس الرئاسي، ولا أيضا لخريطة الطريق، التي وُضعت خلال محاورات المنتدى السياسي في كل من جنيف وتونس. صحيح أن الانتقال من حكومة فائز السراج إلى حكومة الدبيبة تم نسبيا بسلاسة، بالرغم من الشبهات التي أحاطت بملابسات تشكيلها، لكن المهم أن الاستقطاب الثنائي السابق، بين الشرق والغرب، بدأ يذوب شيئا فشيئا. ومثل هذا المناخ من شأنه أن يُسهل مهمة الحكومة، وإن أصبحت التقلبات أمرا مألوفا في المشهد السياسي الليبي.
وبالنظر إلى حجم التحديات الكبرى التي تواجه حكومة دبيبة، يُرجح أنها لن تقدر على إجراء الاستفتاء على الدستور ومن ثم الانتخابات في ميقاتها، واستطرادا من الصعب أن تنتهي مهمتها بعد الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل، مثلما هو مقرر، وبالتالي ستكون حكومة انتقالية أسوة بسابقاتها.

براغماتية حفتر

ولن يكون المُعطِلون بالضرورة من فريق خليفة حفتر، الذي تعاطى بكامل البراغماتية مع التطورات التي أعقبت إخفاق حملته العسكرية على طرابلس، وإنما ستأتي العراقيل من الخاسرين الكُثر الذين همشت التوافقات السياسية والعسكرية أدوارهم. فمن هم الخاسرون ومن هم الرابحون؟
أول الرابحين من الحرب التي هزت أرجاء ليبيا، على مدى ست سنوات، هما تركيا وروسيا، إذ استطاعت موسكو أن تكون في الوقت نفسه، طرفا في الحرب، وأحد رُعاة عملية السلام، بوصفها عضوا دائما في مجلس الأمن. أما الخاسر الأكبر فهو الجنرال خليفة حفتر (76 عاما) الذي يقول بعض المحللين إن المصير الذي ينتظره هو قضاء آخر أيامه في قصر بأبو ظبي.
وبعدما أفشلت القوات الموالية لـ»حكومة الوفاق الوطني» السابقة، الحملة العسكرية على طرابلس، بدعم قوي من تركيا، انهار حلم الضابط المتقاعد بالاستيلاء على العاصمة طرابلس، واستطرادا سقط الهدف البعيد المتمثل بإحكام القبضة على كامل ليبيا شرقا وغربا وجنوبا، مثلما أعلن ذلك حفتر بنفسه في أكثر من مناسبة. والثابت أن الدول الداعمة له (فرنسا، الإمارات، مصر، السعودية، روسيا، الأردن) فقدت ثقتها في مشاريعه، في أعقاب سلسلة الهزائم، التي مُني بها، بعد 14 شهرا من المعارك، خاصة في الضواحي الجنوبية لطرابلس.
ويمكن اعتبار سقوط قاعدة «الوطية» الجوية الاستراتيجية، جنوب طرابلس، في أيدي قوات «الوفاق» بداية النهاية للحملة العسكرية على العاصمة. وما كان ذلك النصر العسكري ممكنا، لولا التدخل التركي المباشر، لدعم القوات الحكومية بالطائرات المسيرة والخبراء والضباط.
أكثر من ذلك، وجد حفتر نفسه يشاهد، عاجزا، عناصر شركة «فاغنر» الأمنية الروسية، الذيين فضلوا الانسحاب عبر الصحراء، مسافة تقارب 500 كيلومتر، نحو الشرق في اتجاه قاعدة «الجُفرة»، التي لم تعد تمثل خطرا على طرابلس. وفي المقابل استحوذت قوات «الوفاق» على معدات وتجهيزات عسكرية روسية متطورة، من بينها منظومة دفاع جوي من طراز «بانتسير».

عقدة وزير الدفاع
من هنا سيكون اختيار وزير للدفاع عُقدة عويصة في تشكيل المشهد الجديد في ليبيا، فالأصل في الأشياء أن يتولى وزير الدفاع قيادة الجيش بالتعاون مع المجلس الرئاسي. ووفقًا لخريطة طريق جنيف، أصبح أعضاء المجلس الرئاسي الثلاثة القائد الأعلى للقوات المسلحة، ما يُلغي كل الألقاب العسكرية التي أسبغها رئيس مجلس النواب عقيلة صالح على الجنرال المتقاعد حفتر. وبسبب تعقيد الموضوع فضل الدبيبة الاحتفاظ بالحقيبة لنفسه (مؤقتا؟) لكن المشهد الجديد لا يكتمل إلا بتسمية وزير للدفاع يكون مقبولا من كافة الأطراف، أو جُلها على الأقل.

معاودة انتشار
وفي الوقت نفسه يُنبه محللون إلى مخاطر استمرار تدفق السلاح والعتاد على القوات الموالية لحفتر، مُعتبرين أن ذلك حسن من أوضاع عناصر «فاغنر» التي لم تبق في ليبيا وحسب، بل صارت تستطيع الاعتماد على غطاء جوي بمطاردات روسية، بعدما أعادت انتشارها في المنطقة الوسطى، بين طرابلس والشرق الليبي. ورأى خبراء عسكريون في ذلك التموقع الجديد، رسالة إلى الطرف المقابل، مفادها أن تقدُمه المحتمل ينبغي أن يقف عند تلك المنطقة (سرت) فيما رأى آخرون أنها مجرد مناورة لتحسين شروط التفاوض.
بهذا المعنى يعتقد بعض الخبراء الاستراتيجيين أن روسيا كسبت الكثير من تدخلها غير المباشر، عن طريق «فاغنر» على عكس تدخلها العسكري المباشر في سوريا، فهي تبدو هنا مجرد «مُسدي خدمات» فقط، وبالتالي يمكنها أن تسعى لدور وساطة، أسوة بدور الأوروبيين والأمريكيين في الصراع الليبي-الليبي. ومن هنا فإن الهدف المركزي لعناصر «فاغنر» تغير من حملة عسكرية للاستحواذ على العاصمة، إلى خط دفاع عن قوات الشرق. ومن المؤكد أن الروس كانوا مُدركين أن قوات حفتر، ومعها «فاغنر» لا تستطيع فرض حصار طويل على طرابلس، بينما هي بعيدة بنحو ألف كيلومترعن قواعدها في الشرق.
لذلك أرسلت موسكو 14 طائرة مقاتلة على الأقل إلى ليبيا، ونشرت القيادة الأمريكية صوراً بواسطة الأقمار الصناعية لقاعدة الجفرة الجوية في وسط البلاد، قدمت أدلة على أن الكرملين أرسل تلك الطائرات لتعزيز المليشيات التي تقاتل نيابة عن الجنرال حفتر، ضد الحكومة المعترف بها دولياً، بحسب تعليق القيادة العسكرية الأمريكية على تحريك تلك الطائرات الحربية.

طائرات مطلية

في هذا السياق سلط موقع «ذا درايف» المهتم بالشؤون الدفاعية والعسكرية، الضوء على التدخل الروسي مع تركيز خاص على الأدلة التي نشرتها القيادة الأمريكية، ليُوضح أن طائرات من نوع «سوخوي-24» ومقاتلات «ام اي 29- 29» غادرت روسيا على مدار عدة أيام في مايو الماضي، وكانت جميعها تحمل علامة سلاح الجو الروسية. وتم طلاء الطائرات في قاعدة حميميم في سوريا، لتظهر بدون علامات وطنية. وبعد ذلك تم نقلها إلى ليبيا، حيث تم تسليم طائرات روسية غير مميزة إلى قاعدة الجفرة الجوية.
أما الإمارات فأنفقت بسخاء على المغامرات العسكرية للجنرال المتقاعد، ووفرت له المرتزقة السوريين واليمنيين والسودانيين والتشاديين. واقتفت خطاها كل من فرنسا وبعض الأوروبيين الآخرين، وإن ظلت باريس تدعو شكلا إلى «حل دبلوماسي» للأزمة، وفرض حظر على إرسال السلاح إلى جميع الأطراف الليبية المتحاربة، علما أن الفرنسيين والروس يعتبرون الحضور العسكري التركي مصدر الخطر الأكبر على مصالحهم في ليبيا.

ترحيب أمريكي
أما أمريكا فرحبت بالتصويت على الثقة، بالأغلبية الساحقة من أعضاء مجلس النواب، على حكومة الوحدة الوطنية. وشدد السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، في بيان مشترك مع الرئيس المتخلي للمجلس الرئاسي خالد المشري، على ضرورة أن يكون تصويت مجلس النواب «خطوة لا رجعة عنها نحو التنفيذ الكامل لاتفاق 23 أكتوبر 2020 لوقف إطلاق النار، بما في ذلك انسحاب جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب من الأراضي الليبية». ومن الواضح أن هذا الكلام يستهدف في الدرجة الأولى الروس والأتراك، إذ أن سحب القوات والمرتزقة الأجانب، هو إحدى المهمات التي تحظى بالأولوية، والتي سيتعين على حكومة الدبيبة تحقيقها بمساندة القوى الداخلية والخارجية الداعمة لبناء مؤسسة عسكرية وأجهزة أمنية فعالة.
وبعيدا عن تلك المناكفات المستمرة بين الأطراف الدولية والإقليمية، فإن كافة مناطق ليبيا تُعاني من ويلات الحرب، التي ستترك آثارها النفسية والاجتماعية المدمرة على المدنيين، وخاصة منهم الشباب والأطفال، إذ أن 54 في المئة من أصل 000 170 نازح هم من الأطفال. كما أن ليبيا، باعتبارها أيضا بلد عبور ووجهة للمهاجرين الاقتصاديين، وغيرهم من المهاجرين المؤقتين، باتت كذلك موطنا لمئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين، الذين يُشكل الأطفال نسبة كبيرة منهم. ولهذا الغرض، تسعى منظمة «اليونيسف» إلى تجميع 20 مليون دولار لتقديم مساعدة عاجلة للأطفال، بغض النظر عن جنسيتهم أو جنسهم أو عرقهم، في جميع أنحاء البلد. وإذا كان قدر الجيلين السابقين اللذين عاشا في كنف الاستبداد، هو الحرمان من حقوق المواطنة ومن ممارسة الحريات الأساسية، فإن الذين كانوا أطفالا في 17 فبراير 2011، يستحقون أن يعيشوا في مجتمع آمن ومستقر يوفر لهم الحرية والكرامة.

تعليقات