رشيد خشــانة – يدلُ التدفق المتواصل لزعماء من بلدان مختلفة لحجز مكان لبلدانهم في سوق إعادة الإعمار، على السياق الجديد الذي أحدثه تشكيل سلطة مركزية موحدة، تستمد شرعيتها من الأمم المتحدة.

يمضي المسار السياسي في ليبيا قُدُما، بعدما احتضنته غالبية القوى المؤثرة الإقليمية والدولية، عقب قناعة عامة بأن خيار الحرب طريق مسدود. ومن المؤشرات القوية على المُضي في طريق التوافق على حل سياسي، توصُل اللجنة القانونیة، المنبثقة من ملتقى الحوار السیاسي اللیبي، في ختام اجتماعها في تونس، الجمعة، بالاتفاق على القاعدة الدستوریة اللازمة لإجراء انتخابات 24 كانون الأول/ديسمبر المقبل. وأكد أعضاء اللجنة أنهم سيقدمون هذه القاعدة الدستوریة، التي لم يُكشف عن مضمونها، مُرفقة مع تقریرھا النھائي، إلى الملتقى قريبا للنظر فيها والتصديق عليها.
على خلفية هذا التقدم يتسابق مسؤولون من دول عديدة على زيارة ليبيا سعيا إلى صفقات وتسهيلات للاستثمار. ويدلُ التدفق المتواصل لزعماء من بلدان مختلفة لحجز مكان لبلدانهم في سوق إعادة الإعمار، على السياق الجديد الذي أحدثه تشكيل سلطة مركزية موحدة، تستمد شرعيتها من الأمم المتحدة.
ومن المؤشرات الرمزية على الصورة الجديدة لليبيا أن اليونان الذي انتابه غضب شديد من الاتفاق الليبي التركي على ترسيم الحدود البحرية أواخر 2019 والذي قطع العلاقات مع ليبيا، وطرد السفير محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي حاليا، من أثينا، أرسل رئيس وزرائه كيرياكوس ميتسوتاكيس، على عجل، إلى طرابلس، ليُحاور رؤوس السلطة التنفيذية الجديدة، ليس فقط عن معاودة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارتين، وإنما أيضا لطلب نصيب من صفقات إعادة الإعمار.
وأبعد من اليونان، تسعى السلطات الجديدة في ليبيا إلى استثمار التأييد الدولي الذي حصلت عليه لترسيخ دورها المحوري في الإعداد للانتخابات العامة، المقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل، وفرض التعاطي معها بوصفها الممثل الشرعي الوحيد لليبيين. وهذا ما يُفسر الجولة الخليجية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، الذي حمل رسالة إلى العواصم التي كانت تدعم هذا الفريق أو ذاك، مفادها أن القناة الوحيدة للاتصال والحوار في المستقبل هي عبر السلطات الشرعية. واستطرادا، يُرجح أنه طلب التوقف عن إرسال السلاح إلى ليبيا أو تمويل جماعات عنيفة من قبيل المداخلة (أنصار رجل الدين السعودي المتشدد ربيع المدخلي) التي كانت تشكل العامود الفقري لجيش الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.

اعتراف بالسلطات التنفيذية الجديدة

وبدل الثناء السابق على حفتر، أكد ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، أن الامارات «تقف إلى جانب الأشقاء الليبيين في هذه المرحلة المفصلية، التي تمر بها بلادهم» مُضيفا «ثقتنا كبيرة في قدرتهم على تجاوز كل التحديات». وهذا خطاب لم يكن رئيس الحكومة السابق فائز السراج يسمع مثيلا له، في زياراته النادرة إلى الإمارات. وفيما أكد الدبيبة أنه أطلع محمد بن زايد على «الجهود المبذولة لقيادة المرحلة الانتقالية، خاصة في ما يتعلق باستعادة الأمن والاستقرار وتهيئة مؤسسات الدولة لانطلاق عملية التنمية والبناء والتحضير للانتخابات» ركز محمد بن زايد كلامه على «المحافظة على سيادة البلد ووحدته وحظر التدخل في شؤونه الداخلية».
وتزامنت جولة الدبيبة الخليجية مع أول جولة تقوم بها وزيرة الخارجية والتعاون الدولي نجلاء المنقوش، وقد بدأتها من تونس لحل المشاكل المتصلة بالمعبر البري وتيسير إجراءات دخول الليبيين إلى تونس، وتسوية فواتير علاج الجرحى في المصحات التونسية. ويتوقع مراقبون أن تعطي الوزيرة المنقوش دفعة قوية للدبلوماسية الليبية، بعد غياب طويل عن الساحة الدولية.

العودة إلى الحرب على الإرهاب

بالرغم من أن أمريكا مشغولة بالملف الليبي، وهي تتابعه ميدانيا بواسطة سفيرها لدى ليبيا، المقيم في تونس، فإنها تعول أكثر على التنسيق مع إيطاليا، مثلما أظهر ذلك وزيرا الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن والإيطالي لويجي دي مايو، في مقال مشترك نشراه أخيرا على موقع وزارة الخارجية الإيطالية. ويتفق الأمريكيون والإيطاليون على ضرورة مغادرة القوات الأجنبية والمرتزقة ليبيا، تمهيدا لإجراء الانتخابات العامة، في الميقات المحدد لها. ويُدرج الأمريكيون والإيطاليون هذا المطلب في إطار تعزيز الاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، واستكمال الحرب على الإرهاب بقيادة التحالف الدولي.
ويسعى الإيطاليون إلى مسابقة منافسيهم الأوروبيين والآسيويين للظفر بأكبر عدد ممكن من عقود إعادة الإعمار والصفقات التجارية. وفي هذا السياق استخدموا اتفاقات تفضيلية سابقة مع ليبيا، أسوة بمعاهدة الصداقة الليبية – الإيطالية الموقعة عام 2008 التي طلب رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، من المسؤولين الليبيين، تفعيلها خلال زيارته لطرابلس أخيرا، مرفوقا بوزير الخارجية لويجي دي مايو. وشدد دراغي على ضرورة تفعيل عمل اللجنة المشتركة وفتح المجالين البحري والجوي بينهما، وتطوير التعاون الثنائي في مجال البنية التحتية والنفط والكهرباء.

منافسة أوروبية حامية

والظاهر أن رؤساء الشركات الإيطالية يُخططون للعودة إلى الاستثمار في ليبيا، بعدما تراجع عدد الشركات الإيطالية بحسب رئيس غرفة التجارة الإيطالية الليبية جان فرانكو داميانو، من 200 شركة إلى 12 فقط.
وبالإضافة لمناخ الحرب الأهلية، عزا داميانو تراجع عدد الشركات الإيطالية العاملة في ليبيا، إلى وجود منافسة أوروبية شديدة، مستدلا بزيارة رئيس الوزراء اليوناني الذي سبقه إلى طرابلس بيوم واحد، ونظيره المالطي الذي حل بها في اليوم نفسه، وهو دليل على الاهتمام الدولي المتزايد بليبيا بعد تولي الحكومة الحالية مقاليد الأمور.
أما زيارة رئيس الحكومة اليونانية إلى ليبيا فارتدت بعدا خاصا، بالنظر لإصرار الجانب اليوناني على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ما يعني معاودة النظر في اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي توصل له رجب طيب اردوغان وفائز السراج في 2019. وكان رد عبد الحميد الدبيبة على المسؤول اليوناني لافتا، إذ أعلن استعداد الجانب الليبي «لاستئناف المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية، بُغية تحديد المنطقة الخاصة بكل بلد، من أجل علاقات أساسها حسن الجوار ومد جسور التعاون بين ضفتي المتوسط» على ما قال.

المفتاح هو الانتخابات

يجوز القول إن جميع البلدان المتابعة للوضع الليبي تعتبر أن إجراء الانتخابات العامة هو مفتاح الاستقرار في البلد، الذي مزقته الصراعات والحروب بالوكالة على مدى عشر سنوات. أما مفتاح الانتخابات فهو المرجعية الدستورية التي لم يتحقق حولها التوافق المطلوب حتى اليوم. ويرى الأمريكيون، الذين يولون أهمية قصوى لهذه المسألة، بحسب سفيرهم لدى ليبيا نورلاند، أن حسم هذه المسألة يتمُ بالاتفاق على قاعدة دستورية قابلة للتطبيق، وكذلك على قانون خاص بالانتخابات الرئاسية والتشريعية، ينبغي أن يُستكمل بحلول الأول من تموز/يوليو المقبل.

اللجنة القانونية إلى تونس

أكثر من ذلك، يدعو الأمريكيون، في حال أخفق مجلس النواب الليبي في تنفيذ تلك الخطوات، إلى العودة إلى منتدى الحوار السياسي للاضطلاع بدوره وفقًا لخريطة الطريق، «حتى يُمكن إجراء الانتخابات وفقًا للموعد الذي حدده المنتدى». ونقل السفير نورلاند هذا الموقف لرئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عماد السايح، خلال لقاء جمعهما أخيرا في تونس.
وأفيد أنهما ناقشا أهمية تأمين الانتخابات، و»إتاحة مساحة للمجتمع المدني للمشاركة في أنشطة توعية الناخبين، وتمكين المرشحين من القيام بحملاتهم الانتخابية بحريّة».
أما عن وضع مرجعية دستورية للانتخابات فالحل، مثلما اختار أهل المطبخ السياسي الليبي، تمثل بعقد اجتماعات اللجنة القانونية خارج ليبيا، وتحديدا في تونس، حيث نوقش الإطار النهائي للقاعدة الدستورية. وستقدم اللجنة هذه القاعدة الدستوریة، مرفقة مع تقریرھا النھائي، إلى الملتقى قريبا للنظر فيها وربما تعديلها..

أخطاء القيادة

غير أن أداء السلطات الجديدة ينمُ أحيانا عن بعض الأخطاء التي تُعكر السير الطبيعي لمسار الحل السياسي، من ذلك حضور رئيس حكومة الوحدة الوطنية الدبيبة، رفقة نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، مراسم حفل تخريج دفعة من المقاتلين، الذين يوالون أحد الأطراف السياسية، ما يشكك بإرادة تجاوز أجواء الحرب الأهلية، وينفخ مجددا في نار الصراعات الأيديولوجية والمناطقية. وأطلق على تلك الدفعة اسم «دفعة بركان الغضب» وهو اسم المعارك التي خاضتها القوات الموالية لحكومة الوفاق، لإخراج عناصر «داعش» من مدينة سرت، وهي إشارة أثارت حفيظة أطراف أخرى، منها رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب، طلال الميهوب. كما أن التعيينات التي قام بها حاكم مصرف ليبيا المركزي صديق الكبير على رأس المصرف الليبي الخارجي أثارت هي أيضا ردود فعل غاضبة على ما اعتُبر محاباة للمقربين.

تدفق السلاح وبقاء المرتزقة

والأخطر من ذلك استمرار تدفق السلاح والمرتزقة على ليبيا، بحسب مصادر متقاطعة، إذ أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن دفعة جديدة قوامها 380 مرتزقا من الفصائل السورية الموالية لتركيا وصلت إلى ليبيا أخيرا. كما كشف المرصد السوري أيضا، عن وجود مرتزقة سوريين، ممن انتدبتهم مجموعة «فاغنر» بذريعة حماية المناطق النفطية في ليبيا، والذين لا توجد حاليا خطط لترحيلهم منها. وبحسب المطلعين على هذا الملف فإن آخر ترحيل لمرتزقة سوريين من ليبيا يعود إلى 29 آذار/مارس الماضي.
ويؤكد هذا التعاطي التركي مع الأزمة الليبية إصرار الرئيس اردوغان على البقاء في ليبيا واستثمار الامتيازات التي حصلت عليها تركيا، وهو ما أغضب دول الاتحاد الأوروبي. ومن هنا فإن لعبة شد الحبل بين أنقرة وبروكسيل ستنعكس في الفترة المقبلة في الساحة الليبية، وستفسح في المجال أمام الروس للمناورة، خاصة أن مرتزقة «فاغنر» ما زالوا مقيمين في ليبيا، وهي ورقة مهمة في الأزمة الليبية، تضمن لموسكو بطاقة المشاركة في أي قرارات دولية تخص مستقبل ليبيا.

تعليقات