رشيد خشــــانة – الأوروبيون لن يغامروا بالمشاركة في قوات حفظ سلام في ليبيا، وسيكونون مرتاحين لو قبلت الجزائر أو أي بلد مغاربي القيام بهذا الدور.

معلومتان مهمتان كشف النقاب عنهما الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في حوار تلفزيوني، الأولى تخص طلبا قدمه إليه رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد دبيبة، لإتمام المصالحة الليبية في الجزائر، والثانية مفادها أن الجزائر كانت مستعدة للتدخل العسكري في ليبيا السنة الماضية، «لو سقطت العاصمة طرابلس في أيدي المرتزقة» وهي إشارة إلى ميليشيات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
تدل المعلومتان على انعطاف كبير في الموقف الجزائري، الذي تحفظ سابقا عن الخوض في الأزمة الليبية، لكنه يتجه حاليا إلى تبوء موقع متقدم في مسار تنفيذ خريطة الطريق، التي تم اعتمادها في مؤتمر برلين الأول في 20 كانون الثاني/يناير من العام الماضي. وتتنزل تصريحات الرئيس الجزائري في سياق ما اعتبرته الرئاسة الجزائرية تكريسا لـ»دور الجزائر المحوري في تعزيز المصالحة الليبية». والظاهر أن الدول المشاركة في مؤتمر برلين الأول، لم تُمانع من اضطلاع الجزائريين بدور أكبر في تعبيد طريق المصالحة، سيرا نحو الانتخابات، المقررة أواخر العام الجاري.
ويتأكد من خلال إعلان تبون أن الجزائر كانت على أهبة الاستعداد للتدخل العسكري في ليبيا العام الماضي، أن الجزائريين لا يعتبرون الجنرال حفتر شريكا في عملية السلام، ولا يتعاطون إلا مع الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة برئاسة الدبيبة. وكان تبون شدد في مؤتمر برلين، على ضرورة «إجراء انتخابات عامة في ليبيا، بإشراف الأمم المتحدة لكي نعرف من يمثل من».
هذه الرؤية الجزائرية ليست بالجديدة تماما، إذ سبق أن أكد الرئيس تبون، لدى استقباله رئيس حكومة «الوفاق الوطني» الليبية فايز السراج، في كانون الأول/ديسمبر الماضي أن طرابلس «خط أحمر نرجو ألا يتجاوزه أحد». وأضاف شارحا «نقصد أننا لن نقبل بأن تكون طرابلس أول عاصمة مغاربية وأفريقية يحتلها المرتزقة. كنا سنتدخل بشكل أو بآخر».
كان التحذير موجها آنذاك إلى قوات الجنرال حفتر، التي وصلت إلى مشارف طرابلس، وكانت العاصمة توشك على السقوط، إلا أن القوات المُهاجمة لم تجرأ على التقدم، فنجت طرابلس وسكانها من الدمار.
هذا الموقف الجزائري المتجدد يستند على ما لديها من قوة عسكرية تجعلها قادرة على ربط التحذيرات بالأفعال، فهي القوة العسكرية الأولى في المغرب العربي، وتملك خبرة كبيرة في الحرب على الجماعات المسلحة، منذ تسعينيات القرن الماضي. واستطرادا فإن كسر التحذير الجزائري كان سيُكلف قوات حفتر، المؤلفة أساسا من مرتزقة روس وتشاديين وجنجويد، هزيمة ثقيلة.
غير أن الدستور الجزائري لم يكن يُجيز للقوات المسلحة تنفيذ عمليات خارج الأراضي الجزائرية، وهو مانع يحول دون التدخل في ليبيا أو في سواها من البلدان. بيد أن الوضع صار مختلفا اليوم بعد تعديله العام الماضي، بما يُخول لرئيس الجمهورية «إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج، تحت مظلة أممية أو أفريقية بعد موافقة البرلمان».
هذا التعديل أزاح عبئا عن أكتاف الأمريكيين والأوروبيين، الذين يتهيبون من إرسال قواتهم، وإن تحت مظلة الأمم المتحدة، لحفظ السلام ومراقبة وقف إطلاق النار في ليبيا. فالأمريكيون عادوا إلى المشهد الليبي بعد غيبة طويلة، غير أنهم لا يضعون إنهاء الأزمة الليبية في مقدم أولوياتهم في الإقليم، خصوصا بعدما قرروا الانسحاب من أفغانستان والعراق.
أما الأوروبيون، فالثابت أنهم لن يغامروا بالمشاركة في قوات حفظ سلام، قد يتقرر إرسالها إلى ليبيا، وسيكونون مرتاحين لو قبلت الجزائر، أو أي بلد مغاربي آخر، القيام بهذا الدور.

إجهاض مسودات قرارات
موضوع التعاطي مع ملف المرتزقة والميليشيات كان حاضرا بقوة أيضا في المحادثات التي أجراها وفد بريطاني رفيع المستوى، زار طرابلس بقيادة وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ووزير الدفاع مع الوزيرة نجلاء المنقوش.
إلى ذلك، يقوم البريطانيون بدور مهم على صعيد المساهمة في إنجاح مؤتمر برلين2 على ما قال الليبيون. وفي هذا الاطار عرضوا تقديم دعم فني للمسار السياسي والعملية الانتخابية المقبلة، من دون تحديد طبيعة الدعم. بالمقابل عرض الليبيون على الوفد البريطاني إطلاق «شراكة استراتيجية» مع المملكة المتحدة في المجالات الأمنية والإدارية والمالية، علما أن بريطانيا من كبار المستثمرين في ليبيا، وخاصة في قطاع النفط عبر مجموعة «بريتش بتروليوم». كما لعب البريطانيون أدوارا مهمة في إعداد مسودات قرارات عرضوها على مجلس الأمن، لإدانة الدول التي تقف وراء المرتزقة في ليبيا، إلا أن أمريكا اعترضت على تلك المشاريع وأحبطتها.
واللافت أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، أشاد بما اعتبره «الدور الكبير لبريطانيا في الدفع قُدُما بالعملية السياسية» مشدداً على ضرورة تعاون بريطانيا والمجتمع الدولي على دعم السلطة التنفيذية الجديدة واللجنة العسكرية المشتركة 5+5 وفتح الطريق الساحلي وإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وتوحيد المؤسسات وتحقيق المصالحة الوطنية. وهذه مهام لم تُطلب من غيرهم.

اجتماع ثلاثي
الظاهر أن تزايد الاتهامات المُوجهة لكل من روسيا وتركيا بالاحتفاظ بمرتزقة في ليبيا، وضعهما في موقف دفاعي وتبريري، وحملهما على التقارب من أجل الرد على تلك الحملات. وكان هذا الموضوع محور اجتماع غير مسبوق في موسكو ضم كلا من المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف ونائب وزير الخارجية التركي سادات أونال، والموفد الأممي إلى ليبيا يان كوبيش. ورمى الاجتماع إلى الرد على الاتهامات المُوجهة إلى الروس والأتراك، بإعلان دعمهم للجهود الدولية برعاية الأمم المتحدة لتيسير إجراء الانتخابات العامة المقررة لأواخر العام الجاري. غير أن الأرجح أن هذا الدعم المُعلن للانتخابات ليس سوى دفع لتهمة التعطيل، وأن الهدف الحقيقي من الاجتماع هو الاتفاق على مناطق النفوذ في ليبيا، أسوة بالعلاقات الروسية التركية المزدوجة في سوريا، حيث يتعايش الصراع في مناطق مع التنسيق في مناطق أخرى. وسيكون مؤتمر برلين2 كفيلا بإظهار الموقف الحقيقي لكل طرف من خريطة الطريق، التي يقضي أحد بنودها بإخراج جميع المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا.
ومن المؤكد أن هذا الملف سيكون في مقدم الملفات التي سيحملها وزير الخارجية التركي جاويش اوغلو في زيارته لطرابلس الأسبوع المقبل، في إطار استعدادات تركيا لمؤتمر برلين2.
وشكل التفجير الذي تبناه تنظيم «داعش» في مدينة سبها (جنوب) الأحد الماضي، مناسبة لتجديد التذكير بوجود قوى تُخرب مسار برلين، وتعمل على إحباط جهود الأمم المتحدة، لإقرار حل سياسي في ليبيا. وهذه هي الرسالة التي تضمنها بيان السفارة الأمريكية، تعليقا على الاعتداء الارهابي في سبها. وكان لافتا في الموقف الأمريكي إعلان الدعم التام لجهود الحكومة الليبية لتحسين الأمن في الجنوب وتوحيد القوات العسكرية، لكن لم يُعرف نوع الدعم الذي تُبدي أمريكا استعدادها لتقديمها لليبيين في هذا المضمار الدقيق، إذ أن الجنوب الليبي خرج عن سيطرة الحكومات المركزية، منذ اندلاع الحرب الأهلية بين قوات «فجر ليبيا» وقوات «عملية الكرامة» في 2014، وبات الجنوب محكوما من قيادات عشائرية وأمراء حرب.
ولو نفذ الأمريكيون الوعود التي قدمها سفيرهم ريتشارد نورلاند، إلى نائب رئيس الوزراء الليبي رمضان أبو جناح، بعد تفجير سبها، لبدأت حكومة الوحدة الوطنية استعادة السيطرة على مناطق الجنوب رويدا رويدا. فالأمريكيون يُتابعون بوسائل الرصد المتطورة حركة الجماعات الارهابية، التي تمركزت في المنطقة الممتدة من شمال مالي غربا إلى الحدود الليبية السودانية شرقا، وخاصة عناصر «داعش» بعد هزيمتها وانسحابها من مدينة سرت نحو الجنوب في 2016. كما يعرف الأمريكيون بالتدقيق عمليات تجارة الأسلحة وشبكات التهريب وملفات المرتزقة، لكنهم مُنصرفون عنها، حاليا، إلى قضايا أخرى في شرق المتوسط، تخص العلاقة مع إيران والانسحاب من العراق، بالاضافة لاحتواء التمدد الروسي في أكثر من منطقة عبر العالم.
أما البريطانيون فأكدوا على لسان وزير الدفاع بن السي، خلال زيارته لطرابلس، أن العمل جارٍ لتنسيق برامج التدريب في مجال مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.

دستور أم لا دستور؟
مع ذلك يبقى أقصر الطرق لإعادة الأمن والاستقرار إلى الجنوب هو إجراء الانتخابات العامة التي تُفرز حكومة مركزية تتمتع بالشرعية الانتخابية وقادرة على بسط سلطتها على كامل التراب الليبي. وهناك مشروع قانون يُنظم الاستفتاء الذي ينبغي أن يُجرى قبل الانتخابات ويكون مرجعية لها. إلا أن المشروع مازال مودعا في أدراج المفوضية العليا للانتخابات، منذ شباط/فبراير 2019 لأن بعض الشخصيات النافذة، أسوة بالجنرال المتقاعد حفتر، ترفضه لأن أحد بنوده يحرم مزدوجي الجنسية من الترشح للانتخابات البرلمانية أو الرئاسية.
وفيما يتمسك قادة تيار الإسلام السياسي، المسيطرين على «مجلس الدولة» بضرورة إجراء الاستفتاء، يعترض على ذلك آخرون من ضمنهم حفتر، مثلما أسلفنا، الحامل للجنسية الأمريكية، وحليفه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عيسى، الذي ما انفك يُعلن، مع ذلك، التزامه بنتائج المؤتمرات الدولية. وهناك خلاف آخر يتعلق بشرعية رئيس الجمهورية، إذ يتمسك جماعة الاسلام السياسي بأن يكون منتخبا من البرلمان، لكي يسهل عزله، إذا ما تغيرت الأوضاع والمواقف، بينما تشدد الأطراف الأخرى على أن يكون منتخبا مباشرة من الشعب كي تكون له الصلاحيات اللازمة لتنفيذ البرنامج الذي انتُخب على أساسه. ولعل مناصري الصلاحيات المحدودة للرئيس يقتبسون من دروس التجربة الانتقالية التونسية، حيث يسعى حزب الإسلام السياسي إلى التحكم بالبرلمان ورئاسة الجمهورية في آن معا.

البعثة… دولة
في هذا الوضع المعقد، سعت البعثة الأممية إلى إيجاد بديل من مشروع الدستور وأناطت باللجنة القانونية و»ملتقى الحوار السياسي الليبي» مهمة إيجاد ذلك المشروع، لكنها أخفقت في هذا الخيار، لأن الكرة باتت في ملعب مجلس النواب ومجلس الدولة، وهما على طرفي نقيض.
أكثر من ذلك، صارت بعثة الأمم المتحدة للدعم عُرضة لاتهامات أطلقها جمع من النشطاء والحقوقيين والسياسيين، الذين نحوا عليها باللائمة، متهمين إياها بـ»الانتزاع الكامل لاختصاص المؤسسات الليبية المعنية، ما جعلها (البعثة) تتحول إلى سلطة مركزية في ليبيا، وأدى إلى تعليق عمل الدائرة الدستورية في المحكمة العليا، والحيلولة دون تصدي هذه الأخيرة للقرارات والقوانين غير المشروعة دستورياً وقانونياً، الصادرة عن البعثة وتابعيها».
في السياق كتبت لجنة الحريات العامة وحقوق الإنسان في النقابة العامة للمحامين، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وخاطبت من خلالها أيضا، بعثة الأمم المتحدة للدعم، داعية إياها إلى ترك البلاد فوراً أو العمل بجدية لحل مشاكلها. وتضمن فحوى الرسالة أن البعثة «عمدت إلى إدارة الأزمة وليس حلها، وذلك بتجاهل الأهداف الرئيسة من وراء تشكيلها، ومنها تحقيق المصالحة الوطنية والمساعدة على إجراء الانتخابات.
وشككت اللجنة في خطابها بوطنية الشخصيات المختارة من قبل البعثة في ملتقى الحوار السياسي، منتقدة قيام البعثة بإحياء مجلس النواب المنتهية ولايته على حد وصفها.
في أثناء ذلك يبقى الوضع العسكري محفوفا بالمخاطر، إذ تتقابل القوات المؤيدة لحكومة الوحدة الوطنية في منطقة أبوقرين، على بعد نحو خمسين كيلومترا عن سرت، حيث تتمركز القوات الموالية لحفتر. ويرفض آمر القوات الحكومية إبراهيم بيت المال، تنفيذ قرار المجلس الرئاسي بفتح الطريق الساحلي بين الشرق والغرب، مُعتبرا أن مخرجات 5+5 يجب أن تنفذ حزمة واحدة ومن الطرفين، وأن تنفيذ أوامر فتح الطريق الساحلي تتوقف على تحقيق كل الشروط من الطرفين»، وهو أمر ما زال بعيد المنال، بالرغم من الوساطات النشطة لدى الجانبين.

تعليقات