رشيد خشانة – يسعى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى تجاوز الاستقطاب السياسي، بواسطة «مشروع المصالحة الوطنية» الذي يُشبه «مشروع الوئام المدني» في الجزائر عام 1999.

على الرغم من الخلاف بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة (استشاري) في شأن القانون الانتخابي، قطعت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات شوطا مهما في الإعداد المادي للاستحقاق الرئاسي، المقرر للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل، بعدما أرجئت الانتخابات النيابية إلى الشهر التالي. وبالنظر لأهمية ضمان شروط الأمان للعملية الانتخابية بحث رئيس المفوضية عماد السائح مع رئيس جهاز الأمن الداخلي لطفي الحراري خطة تأمين العملية الانتخابية بشكل عام، والمراكز الانتخابية بشكل خاص.
وحسب بيان للمفوضية على موقعها، سيضع الجانبان خطة أمنية مشتركة، ما يوفر مناخا مناسبا لإجراء الانتخابات في ظروف طبيعية. والظاهر أن الاستحقاق الانتخابي لن يواجه مخاطر في الجانب الفني، بالنظر لخبرة المفوضية العليا في هذا المجال، وإنما في الجانب السياسي، إذ لم يُعرف حتى الآن من هم المرشحون لرئاسة الدولة، وسط إحجام الشخصيات التي يُرجح أنها معنية بالترشيح، عن الاعلان عن قرارها بشكل واضح.
وأصدر مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح قانونا انتخابيا من دون استشارة باقي أعضاء المجلس. وأتى القانون على مقاس الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، إذ نص أحد البنود على ضرورة استقالة من يتولى منصبا رفيعا في المؤسسات المدنية أو العسكرية قبل ثلاثة أشهر من يوم الاقتراع، مع تمكينه من حق العودة إلى منصبه في حال أخفق في الامتحان الانتخابي.
وينطبق هذا الشرط على عقيلة صالح أيضا، الذي استقال من منصبه شكليا ليكون مؤهلا لخوض المعركة الانتخابية، على أن يعود إلى رئاسة مجلس النواب في حال لم يفز برئاسة الدولة.
والأكيد أن هذه المنافسة بين الحليفين لن تتم، فالأرجح أن صالح، الذي لا تقف خلفه قوة عسكرية، سيتراجع في نهاية المطاف لحفتر القائد العسكري للمنطقة الشرقية. ويبدو وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا متحررا من تلك الاعتبارات، فهو يبدو مرشحا عابرا للمناطق، وإن كان ابن مدينة مصراتة، صاحبة القوة العسكرية والاقتصادية الكبيرة والنفوذ السياسي الواسع، داخليا وخارجيا.
أما سيف الاسلام القذافي فما زالت شكوك كثيرة تحوم حول ترشيحه، إذ لم يُعلن عن ذلك بلسانه، وإنما تطوع مناصروه ومحاموه للتصريح بنيته الترشُح للرئاسية. هذا فضلا عن الموانع القانونية التي يُتوقع أن تقف حائلا أمام ترشيحه، بصفته مطلوبا للقضاءين المحلي والدولي.
وهناك مُرشح آخر محتمل هو رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، الذي لم يؤكد ولم ينف رغبته في الترشُح، إلا أن زياراته المتواترة وتنقلاته الكثيفة في الداخل والخارج، ومشاركته في المظاهرات وسخاء العلاوات والمنح التي أمر بها للمدرسين، توحي بأنه يخوض حملة انتخابية لا تبوح باسمها أكثر من ذلك، أكد الدبيبة للعاملين في باقي القطاعات العامة أن الزيادة في رواتبهم «هدف رئيس لحكومة الوحدة الوطنية، وعلى رأسهم العاملون بقطاعي الصحة والداخلية» وهو إجراء يعتبره الخبراء الماليون مغامرة ستُنهك اقتصادا بدأ بالكاد يتعافى.
لكن بالرغم من هذه القرارات السخية، التي يمكن وصفها بـ»الشعبوية» يحظر الاتفاق السياسي، الذي تشكلت على أساسه حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي الحالي، على أعضاء المؤسستين الترشيح للانتخابات المقبلة.
وستساهم تلك التجاذبات في تسخين الأجواء السياسية مع اقتراب ميقات الانتخابات. غير أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي يسعى إلى تجاوز الاستقطابات السياسية، بواسطة «مشروع المصالحة الوطنية» الذي يُشبه «مشروع الوئام المدني» في الجزائر، والذي أقره الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة بعد توليه الحكم في سنة 1999.
وترمي «المصالحة الوطنية» التي تبناها المنفي، لاستعادة حالة السلم والأمن في الدولة والمجتمع على السواء، والمحافظة على الاستقرار السياسي. ووعد بالسعي لعقد مؤتمر جامع تُمثلُ فيه كافة الأطياف على تنوُعها، وينبثق منه ميثاق وطني يكون عصارة اللقاءات مع الشخصيات المشاركة في الحوار.

حوارات في القاهرة

وتنفيذا لذلك المشروع، أوفد المجلس الرئاسي نائب رئيس المجلس عبد الله اللافي إلى القاهرة مطلع الشهر الجاري، حيث يوجد أكبر تجمُع لعناصر النظام السابق، من أجل محاورتهم، في حضور وزيرة العدل الليبية حليمة عبد الرحمن. وكان المجلس الرئاسي من المُشجعين على الافراج عن مسؤولين سابقين في نظام معمر القذافي، باعتبارها خطوة مهمة في طريق تكريس المصالحة. وجرت في اجتماع القاهرة مناقشة مرتكزات المشروع، كما طرح الحضور استفسارات وأفكارا ومطالب متعلقة بإنجاز المصالحة المطلوبة.
وكان هذا المشروع انطلق مع إعلان المجلس الرئاسي، بوصفه رئيسا للدولة، عن إنشاء المفوضية العليا للمصالحة في بداية نيسان/ابريل الماضي، إيذانًا بانطلاق المشروع. ثم أعقبت ذلك الاعلان لقاءات في عدد من المدن الليبية، لمناقشة المشروع. واستفاد الليبيون بالسلب من التجربة التونسية في العدالة الانتقالية، التي استثمرها طرف سياسي واحد، معتبرين أن القضية ينبغي أن تشمل جميع الليبيين، ولا تستثني أحدا من ضحايا الاستبداد في ظل النظام السابق.
وكشف تقرير أعدته بعثة تقصي الحقائق الخاصة بليبيا، النقاب عن انتهاكات لحقوق الإنسان ارتكبتها الميليشيات والجماعات المسلحة وقوات الأمن منذ العام 2016 في مناخ من الإفلات من العقاب. وعرضت البعثة التقرير أمام الدورة 48 لمجلس حقوق الإنسان أخيرا، بعدما وثقت انتشار الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة والاغتصاب والعنف الجنسي والقتل غير المشروع، والمحاكمات الجائرة للغاية، بما في ذلك المحاكمات العسكرية.

أدلة على جرائم حرب

ورصد تقرير بعثة تقصي الحقائق وجود أدلة على حدوث ما وصفوها بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في ليبيا منذ العام 2016 بعد التحقيق الذي أجروه على الأرض وفي تونس وإيطاليا.
أكثر من ذلك، طلب رئيس بعثة التقصي وزير حقوق الانسان المغربي الأسبق محمد أوجار، من السلطات الليبية تيسير زيارة أعضاء البعثة إلى بنغازي لاستكمال التحقيقات، مؤكدا أن البعثة واجهت صعوبات في الوصول إلى جنوب البلاد ومواقع أخرى لم يُحددها. وشكا أوجار من «الوجود الأمني الكبير أثناء التحقيقات»، الذي قال إنه شكّل عائقا أمام إفصاح الشهود عن الحقائق.
من هنا فإن متابعة هذا الملف ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات مقدمة ضرورية لاستعادة الثقة بالمؤسسات وتأمين إقبال المواطنين على مراكز الاقتراع في الانتخابات الرئاسية.
ويجوز القول إن أمريكا هي الطرف الدولي الأكثر دفعا في اتجاه تكريس المصالحة بين الفرقاء الليبيين، وإنجاز الانتخابات في التاريخ المحدد لها، وهو ما أكده مستشار الوفد الأمريكي الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير جيفري ديلورينتيس، مُشددا في الوقت ذاته على ضرورة «سحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية من دون تأخير». وكان هذا الموضوع أحد محاور الاجتماع الأخير بين وزيري الخارجية الروسي لافروف والمصري شكري، في موسكو، وهما البلدان الأكثر تحفظا، مع تركيا، على إجراء انتخابات عامة في ليبيا، لأسباب مختلفة.
واللافت أن لافروف وشكري أكدا في مؤتمر صحافي مشترك، على ضرورة سحب كل الجماعات المسلحة والوحدات العسكرية الأجنبية من ليبيا، لكن «على مراحل وبشكل متزامن وفي الوقت المناسب لتلافي مخاطر محتملة» لم يُحدداها.
وتعمل روسيا، غريمة تركيا في ليبيا، على حشد الحلفاء، ومنهم مصر، من أجل الابقاء على قواتها هناك، مع تدويرها فقط للإيهام بأنها باشرت الانسحاب. وتؤكد مصادر ليبية مختلفة أن عناصر الشركة الأمنية الروسية الخاصة «فاغنر» مازالوا في قواعدهم في ليبيا، ولم يُغادروها، بالرغم من المناشدات الدولية. وتدعم كل من روسيا ومصر الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، على عكس تركيا، التي تدعم حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الأعلى للدولة.
وكان القائم بأعمال المندوب الأمريكي الدائم لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز، خاطب كلا من روسيا وتركيا والإمارات، داعيا إياها علنا «إلى احترام السيادة الليبية والشروع فوراً في سحب قواتها من البلد».
وتُسببُ هذه العقبة تعثُرا في تنفيذ بنود مسار برلين، ظهرت بعض ملامحه في قرار الفصل بين المسارين الانتخابيين الرئاسي والبرلماني، إذ سيجري الأول في ميقاته، فيما أرجئ الثاني إلى كانون الثاني/يناير المقبل، مثلما أسلفنا.
وأثار قرار مجلس النواب بتأجيل موعد الانتخابات النيابية جدلا كبيرا ومخاوف من تعقد الأزمة السياسية، بينما رأى فيه البعض الآخر «فرصة لتحقيق الاستقرار».
وينطوي قرار تأجيل الانتخابات على مخاطر جمة على البلد قد تؤدي به إلى التقسيم، مثلما حذر من ذلك وزير الداخلية الايطالي الأسبق ماركو مينيتي. وتوقع مينيتي في حديث أدلى به لصحيفة «دي فيلت» الألمانية، أن عدم إجراء الانتخابات في الميقات المتفق عليه قد يترتب عليه تحوُل ليبيا إلى منطقتي نفوذ روسية تركية، على غرار الواقع الحالي في سوريا. ورأى أن الوصول إلى ذلك الوضع «سيكون هزيمة ثقيلة لأوروبا و(بمثابة) أفغانستان أخرى».
وسعيا لاستقطاب الدعم الدولي لمشروع «استقرار ليبيا» تُعدُ الحكومة المؤقتة لعقد مؤتمر في نهاية الشهر الجاري، تحت هذا العنوان، للتدليل على أن البلد بات مستقرا وآمنا، واستطرادا تمكين المشاركين من تحصيل صفقات، في إطار خطط إعادة الاعمار.
وبالتوازي مع هذا المؤتمر سيُعقد في بداية الشهر المقبل «ملتقى ليبيا الدولي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة»، وهو عمل لم يكن ممكنا القيام به قبل اتفاق وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية في آذار/مارس الماضي.
في السياق أظهرت دراسة أصدرتها أخيرا منظمة «الإسكوا» (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) أن إحلال السلام في ليبيا سيوفر فرصًا ومكاسب اقتصادية لشركائها التجاريين الأساسيين، بإجمالي 32 مليار دولار. وتوقعت الدراسة أن تحقق إيطاليا مكاسب بقيمة 13 مليار دولار، وألمانيا بنحو 7.5 مليار دولار، وفرنسا بنحو 6 مليارات، وتركيا بواقع 5.5 مليار حتى عام 2025.
ورجحت دراسة «الإسكوا» أن تحصد دول الجوار الليبي مكاسب اقتصادية كبرى تصل إلى 163 مليار دولار بحلول عام 2025، موزعة بين 100 مليار دولار لمصر، و23 مليارًا للسودان، و10 مليارات لتونس، و30 مليارًا للجزائر.
وتنبغي الإشارة في هذا الإطار إلى إعلان الدبيبة الأحد الماضي عن الشروع في إنشاء مصفاة نفط جنوب ليبيا، بكلفة تصل إلى 600 مليون دولار، ويستغرق إنشاؤها ثلاثة أعوام. ويعود مشروع المصفاة إلى ثمانينات القرن الماضي، لكن الفكرة لم تتجسد لأسباب غير معلومة. ويُؤمل أن تكون المصفاة قاطرة لمشاريع استراتيجية أخرى في الجنوب، الذي يشكو من إهمال استمر عقودا.
من هنا فإن عودة السلم إلى ليبيا وتركيز سلطات منتخبة سيُعيد تدوير عجلات الاقتصاد ليس فقط في مناطق البلد المختلفة، وإنما أيضا في دول الجوار، التي تضررت جراء الصراع المسلح بين الفرقاء الليبيين.

تعليقات