رشيد خشـــانة – مكونات المجتمع المدني تعتبر الإجراءات الجديدة قيودا تعسفية في سياق حملة واسعة تستهدف ترهيب المجتمع المدني وتكميم الأفواه.

إذا كان هناك من مُعرقل لبرامج أية حكومة ليبية في الوضع الراهن، فهو غلق الموانئ النفطية وتوقف إيرادات تصدير النفط والغاز. ولهذا السبب ركز السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، في آخر تصريح له، على أن استئناف إنتاج النفط والإدارة الشفافة للعائدات هما عنصران مهمان لتحقيق الاستقرار في ليبيا، من دون الإشارة إلى المسؤولين عن الغلق.
ومن التداعيات السلبية التي تجرعها الليبيون لدى تعطيل القطاع النفطي، في أوضاع مشابهة، انقطاع التيار الكهربائي وعرقلة إمدادات المياه ونقص الوقود، وهي مشاكل تُنغص حياتهم، فضلا عن الخسائر المالية الكبيرة المترتبة عليها. وكان السفير نورلاند عبّر عن قلقه بشأن توقف إنتاج النفط في ليبيا، مشيرًا إلى أن ذلك «قد يخلق ظروفاً عصيبة على الشعب الليبي». وحسب وزير النفط محمد عون فإن إغلاق عدد من حقول النفط يُفقد ليبيا بين 50 إلى 70 مليون دولار يوميًا.
أكثر من ذلك، أكد عون أن الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد خفضت إنتاج النفط بنحو 400 ألف برميل يوميًا، بعد أن كان يصل إلى نحو 1.2 مليون برميل نفط خام يوميًا، ونحو 2.5 مليار برميل غاز. وأفاد عون أن وزارته شكلت لجنة لإعداد تقرير تفصيلي عن تأثيرات إغلاق حقول النفط في الاقتصاد المحلي. وفي السياق وضع عون الإصبع على مشكلة جوهرية، هي تأثير الصراع السياسي في مصائر قطاع النفط والغاز، مطالبًا بعدم الزج بالقطاع في الخصومات السياسية، «باعتباره الثروة الوحيدة للبلاد» كما قال، ومُجددًا دعوة كافة المسؤولين إلى الامتناع عن إقحام انتاج النفط في المساومات السياسية.
وكان الوزير عون كشف النقاب، في تصريحات صحافية، أن ليبيا تضخ يوميًا 250 مليون قدم مكعب من الغاز إلى إيطاليا، أي ما يعادل 91 مليار قدم مكعب سنويًا، واصفًا الكميات المصدرة إلى إيطاليا عبر الأنبوب الرابط بين مليتة (شمال غرب) وجنوب إيطاليا بأنها غير كبيرة قياسا على استهلاك البلد الذي يُعتبر ثالث قوة اقتصادية في أوروبا.
لكن لا شيء في الوضع الراهن يُطمئن على أن الأزمة السياسية لن تتفاقم، وألا يعود اللعب بورقة النفط مجددا في سوق المناكفات السياسية، التي لم تتوقف منذ العام 2014. ومن علامات التجاذب الخطر بين الحكومة التي عينها مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا وحكومة الوحدة الوطنية المُعترف بها دوليا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، أن الأولى عقدت أول اجتماع لها يوم الخميس الماضي في مدينة سبها عاصمة إقليم فزان (جنوب) في خطوة قد تُمهد للعودة إلى أجواء الانشطار إلى حكومتين متنافستين. ويُعزى اختيار باشاغا لعقد اجتماع حكومته الأول في سبها إلى ثلاثة أسباب، أولها أنه لم يستطع دخول طرابلس بالوسائل السلمية، وثانيها أن اختيار عقد الاجتماع في مقر البرلمان بطبرق أو في البيضاء (شرق) يُقزم الحكومة ويُظهرها في وضع العاجز. أما السبب الثالث فهو سهولة الدخول إلى سبها، لأن مؤسسات الدولة فيها مشلولة، ولا قدرة للحكومات المركزية المتعاقبة للسيطرة عليها أمنيا وسياسيا.
غير أن باشاغا عزا اختياره سبها إلى رغبة حكومته بإيصال رسالة تؤكد فيها أنها «حكومة لكل الليبيين» بالإضافة إلى أهمية الجانب الرمزي في اختيار ثالث المدن، التي هي في الوقت نفسه عاصمة أحد الأقاليم الثلاثة. والأرجح أن سبها ستبقى ملجأ لعقد اجتماعات حكومة باشاغا، لأن تغيير المكان يُقلل من القيمة والصدقية. وفي خطوة بدت ردا مباشرا على اجتماع الحكومة الموازية في سبها، اختار الدبيبة أن يدعو رئيس المجلس البلدي في سبها وأعضاء المجلس إلى اجتماع في مكتبه بديوان رئاسة الوزراء، في العاصمة، خصصه للبحث في «الصعوبات والمشاكل التي تواجه أوضاع بلدية سبها» وخاصة نقص الوقود في المدينة، وهي مشاكل قائمة منذ سنوات.

حالة القوة القاهرة

وكانت المؤسسة الوطنية للنفط أعلنت منذ مطلع الأسبوع حالة القوة القاهرة في عدد من الموانئ والحقول النفطية، في أعقاب دخول محتجين إليها، مطالبين بإقالة رئيس المؤسسة مصطفى صنع الله، وعدم التصرف في إيرادات النفط ولا تسييلها لحكومة الوحدة (الدبيبة).
وتؤكد مصادر قريبة من المحتجين أن الدبيبة أنفق في العام 2021 نحو 86 مليار دينار (18 مليار دولار) وسط تحذيرات أصدرها مراقبون ومهتمون بالشأن الاقتصادي، من أن يؤدي الإسهاب في الإنفاق إلى ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة الدينار. أما على الصعيد القانوني فتوعد صنع الله بتقديم مذكرة للنائب العام، تتضمن أسماء المحرضين الرئيسيين على إغلاق حقول النفط تمهيداً لمحاسبتهم.
وفي خط مُواز شكلت وزارة النفط والغاز برئاسة الوزير عون، الذي لا ينسجم مع صنع الله، لجنة للوقوف على مستجدات القطاع ومتابعة ملف الإغلاقات التي ينفذها محتجون في بعض الحقول والموانئ النفطية. وبحسب بيان مقتضب للوزارة، فإن اللجنة باشرت التواصل مع أعيان ووجهاء المناطق التي توجد فيها الحقول النفطية المغلقة، «بغية الخروج بحلول تناسب كافة الأطراف وما يتوافق مع المصلحة الوطنية» مبينة أن اللجنة تُعد في حالة انعقاد مستمر لمتابعة الإغلاقات الحاصلة في المواقع الصحراوية والبحرية.

نزيف مالي كبير

لكن هناك نزيفا كبيرا آخر لا يتحدث عنه إلا القليلون، وهو حجم التهريب المتزايد للثروة النفطية، عبر السواحل والحدود البرية، التي لا تسيطر عليها أجهزة الدولة، ويتحكم فيها أباطرة التهريب، وهي تجارة غير شرعية تُكلف خسائر كبيرة لمؤسسة النفط، بالرغم من كل ما تُنفقه على أسلاك حراس الموانئ والحقول النفطية. ويعتقد الخبراء أن هذا النزيف لا يمكن أن يتوقف على أيدي حكومات ضعيفة لا تتعدى دائرة سلطتها حدود المدينة التي توجد فيها.
من هنا يعود الحل السياسي إلى الواجهة للتعجيل بإجراء الانتخابات وتأمين مرجعية دستورية لها تحظى بأوسع توافق ممكن بين الليبيين من مشارب ومناطق مختلفة. ويعتقد المتابعون للملف الليبي أن التجربة أثبتت أن الطرف الوحيد القادر على لعب دور الحكم بين الفرقاء الليبيين هي المنظمة الأممية. وعليه تحضُ أطراف دولية وإقليمية عدة على الإسراع بتسمية مبعوث دائم للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، للبناء على ما حققه المبعوثون السابقون، وخاصة غسان سلامة وستيفاني وليامز.
وربما من أعلى الأصوات الداعية إلى استئناف المسار الحواري من أجل الوصول إلى حلول لمسألتي الانتخابات والدستور، صوتُ الأمريكيين، على لسان سفيرهم نورلاند، الذي عبّر عن قلقه بشأن توقف إنتاج النفط في ليبيا، مشيرًا إلى أن ذلك قد يخلق ظروفاً عصيبة على الشعب الليبي، بما في ذلك انقطاع التيار الكهربائي وتعطُل إمدادات المياه. وفي السياق أكدت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس -غرينفيلد، أن أمريكا مستمرة بالاشتغال على الملف الليبي، مشيرة إلى ضرورة تعيين مبعوث خاص، على أن يكون مستعدا للذهاب إلى ليبيا، وأن يتمكن من القيام بمهامه.
والأمريكيون كما يبدو يرغبون بالاستثمار في ليبيا رغم الأوضاع الأمنية غير المستقرة، وهو ما أعرب عنه أعضاء جمعية رجال الأعمال الأمريكية – الليبية الذين شاركوا في مائدة مستديرة بواشنطن، لمناقشة التطورات السياسية والاقتصادية الراهنة، التي تؤثر على العلاقات الأمريكية – الليبية، في حضور السفير نورلاند. وعبر رجال الأعمال عن قلقهم بشأن حالة عدم اليقين السياسي وتحشيد الميليشيات واضطرابات إنتاج النفط والغاز، «التي تلقي بظلالها على بيئة الأعمال في ليبيا، وتضر بنوعية حياة الشعب الليبي» وفق بيان صادر عن السفارة الأمريكية لدى ليبيا. وأبدى أعضاء الجمعية اهتمامهم بـ«إمكانات ليبيا الهائلة للنمو الاقتصادي» في إشارة إلى مخزون البلد من النفط والغاز، الذي يُعد الأكبر في القارة الأفريقية. ويمكن القول إن تلك الثروة هي أبرز ما يهم الأمريكيين في ليبيا.
وفي خطوة موازية اجتمع حاكم مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير مع نائب مساعد وزير الخزانة الأمريكي إريك ماير، عبر الفيديو، الذي أكد على ضرورة المحافظة على الاستقرار المالي والنقدي، ودعم المؤسسة الوطنية للنفط وتوفير الموارد المالية لزيادة مستوى إنتاج النفط الخام.

استفاقة المجتمع المدني

غير أن الجديد في الفترة الأخيرة تمثل بعودة المجتمع المدني الليبي إلى مسرح الأحداث، بعدما انكفأت مكوناته على نفسها طيلة أعوام، بسبب سطوة الجماعات المسلحة والعنف، إلى جانب استهداف كثير من النشطاء والناشطات في المناطق الشرقية والغربية على السواء، بالخطف والقتل والاعتداءات الجسدية. وحضت عشرات الجمعيات والمنظمات الحقوقية والإعلامية و57 شخصية مستقلة، السلطات الليبية على ضمان الحقوق الدستورية، و«رفع القيود التعسفية على حرية التنظيم وتكوين الجمعيات الأهلية، والوفاء بالالتزامات الدولية». وخصُوا بالنقد مفوضية المجتمع المدني، على إثر إصدارها مؤخرا تعميما حظرت بموجبه على المنظمات والأفراد المنتمين لها المشاركة في أي أنشطة خارج ليبيا، بما فيها التدريبات وورش العمل أو التعاون مع المنظمات الدولية أو تلقي الدعم منها.
واعتبرت مكونات المجتمع المدني تلك الإجراءات «قيودا تعسفية» مفروضة عليها، في سياق «حملة واسعة تستهدف ترهيب المجتمع المدني وتكميم أفواه المدافعين عن حقوق الإنسان» مشيرة إلى أن المجتمع المدني الليبي واجه مؤخرا «حملة ممنهجة تشنها بعض الأجهزة الأمنية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان» من دون تحديد الأجهزة المقصودة. كما حضت المنظمات والشخصيات الموقعة على البيان مجلسَ النواب على إقرار مشروع قانون سبق أن أحالته إليه منظمات حقوقية وشخصيات عامة في تشرين الأول/اكتوبر 2021.
ومثل هذا الجدل لا ينفصل عن التأخير في إقرار دستور ديمقراطي يكون ثمرة من ثمار انتفاضة 2011 ضد الاستبداد. ومن غير المفهوم استمرار الخلاف على مسودة الدستور، التي أعدتها لجنة منتخبة تمثل جميع أقاليم ليبيا، والتي ضمت ستين عضوا من خيرة الخبراء في القانون الدستوري والعلوم السياسية. ويتجاهل هؤلاء أن «لجنة الستين» أنهت عملها، بعد عدة اجتماعات في عواصم مختلفة، وتوصلت إلى مسودة جاهزة للاستفتاء عليها. وقد أجيزت منذ يوم 29 تموز/يوليو 2019 بعدما حصلت على الغالبية، وحصدت أصوات ثلثي أعضاء اللجنة.
وفيما يتصارع الزعماء الليبيون على مواقع السلطة، يستسلم الشباب للإحباط ويُخطط لمغادرة البلد، فقد أظهر استطلاع حديث أن ليبيا تتصدر قائمة الشباب العرب الراغبين في الهجرة، بعد لبنان. وتوقع 86 في المئة من الليبيين المستجوبين اندلاع احتجاجات مناهضة للحكومة، وانتقد 63 في المئة من أولئك الشباب تفشي الفساد الحكومي بشكل واسع في بلدهم. ويُلقي هذا الوضع الاجتماعي بظلاله على المسار السياسي، إذ سيكون من العسير على «الزعماء» كسب ثقة الشباب وإقناعهم بالانخراط في العمل السياسي والتخلي عن السلاح.

تعليقات