رشيد خشــانة – وصف بلينكن الجزائر بعد لقائه الرئيس تبون، بكونها «الصوت الحاسم» في الجهود الدولية لدفع العملية السياسية، التي تقودها الأمم المتحدة، في ليبيا.

تتضافر الأزمة الطاقية التي تضرب أوروبا، مع تفاقم الصراع الليبي الليبي، ليُمهدا لتغيير في المعطيات الاستراتيجية في الإقليم بأسره. فالعملاق النفطي والغازي النيجيري دخل على الخط بقوة ليؤمن للمغرب ما خسره جراء إقفال الأنبوب الغازي «ميدغاز» الرابط بين إسبانيا والجزائر، عبر الأراضي المغربية، ما يُعدُ نصرا دبلوماسيا للمغاربة في «حرب الغاز» مع الجزائر، إذا ما انطلق فعلا تنفيذ المشروع. وفي المنطقة نفسها تعرضت المصالح الفرنسية إلى «خضة» قوية، بعد قرار المجلس العسكري الحاكم في مالي إلغاء الاتفاقات «الدفاعية» مع فرنسا والاتحاد الأوروبي. وعزا المجلس هذا القرار إلى ما اعتبره «انتهاكات صارخة لسيادة البلد» من قبل القوات الفرنسية المقيمة، إلى جانب «الخروق الكثيرة للمجال الجوي المالي». وتُحدد الاتفاقات المعروفة بـ«اتفاقات صوفا» الإطار القانوني لوجود قوة «برخان» العسكرية الفرنسية في مالي، وهي اتفاقات تعود إلى 2014.
أما روسيا فأقرت بوجود مدربين عسكريين روس «غير مسلحين» في أفريقيا الوسطى. غير أن منظمة «هيومان رايتس ووتش» أكدت في تقرير جديد، أنها تشتبه بكونهم مرتزقة روس من المجموعة العسكرية الخاصة «فاغنر». وورد في التقرير أن تلك العناصر «تتكلم الروسية وتمتطي سيارات روسية وتلبس الأزياء العسكرية الروسية». بل إن فوستان أرشانج تواديرا رئيس أفريقيا الوسطى اعترف، هو نفسه، باستنجاده بالروس لصد هجوم من المعارضة المسلحة على العاصمة بانغي في أواخر 2020.
وكشفت تحقيقات أجرتها «هيومان رايتس ووتش» عن وقائع جرت بين شباط/فبراير 2019 وتشرين الثاني/نوفمبر 2021 وتتعلق بانتهاكات خطرة وجماعية لمدنيين أفارقة غير مسلحين، بينها الاعتقالات والتعذيب والاعدامات، التي يُعتقد أن من نفذوها هم جنود روس.
وإلى جانب القوات الفرنسية المُغادرة، طلب العسكر الماليون، الذين استحوذوا على الحكم بواسطة انقلاب في آب/اغسطس 2020 من القوات الأوروبية المعروفة بـ«تكوبا» الرحيل من البلد أيضا، ما قد يُفسح المجال أمام تعويض الجنود الغربيين بجنود روس. ولا يُعرف ما إذا كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف سيصل إلى اتفاقات جديدة مع السلطات الجزائرية، خلال زيارته المرتقبة للجزائر في الأيام المقبلة، تخص التعاون بين الحكومتين، سواء في الأمم المتحدة، أم في القارة الأفريقية. وتعتبر الجزائر حليفا بارزا لروسيا في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، ومن بينها منظمة الدول المصدرة للنفط.
غير أن الموقف الجزائري من الصراع في ليبيا أحدث فجوة في العلاقات المصرية الجزائرية، بعد إعلان الرئيس عبد المجيد تبون أن الجزائر لا تعترف إلا بحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ما أثار موجة من الانتقادات العنيفة في وسائل الإعلام المصرية. ويُحيل هذا الخلاف حول الموقف من طرفي النزاع في ليبيا، إلى خصومات سابقة بين الجزائريين والمصريين قد تكون شرارتها أحيانا مباراة كرة قدم. لكنها اكتست في بعض الأحيان بُعدا سياسيا مثل مطالبة الجزائر بتدوير منصب الأمين العام للجامعة العربية، كي لا يبقى حكرا على الوزراء المصريين المتقاعدين، وهو اقتراح رفضته القاهرة بشدة.
وتندرج المحادثات التي أجراها مستشار الخارجية الأمريكية ديريك شوليت، مع سفير الجزائر لدى الولايات المتحدة أحمد بوطاش، في إطار التشاور حول الأزمتين الليبية والأوكرانية. وقد تطرقت المشاورات إلى تطورات الملف الليبي، وخاصة مسار تنظيم الانتخابات. وكان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي زار الجزائر والمغرب، أفاد أن واشنطن والجزائر «تعملان على دفع الانتقال الديمقراطي في ليبيا إلى الأمام». واللافت أن بلينكن وصف الجزائر بعد لقائه الرئيس عبد المجيد تبون، بكونها «الصوت الحاسم في الجهود الدولية لدفع العملية السياسية، التي تقودها الأمم المتحدة في ليبيا، ودعم إجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن» على ما قال.

زيارة لا تسُرُ

في السياق كتب الإعلامي الفرنسي بينوة دلماس أن دول شمال أفريقيا، المتعادية أصلا، سيتعين عليها حسم موقفها بعد حرب أوكرانيا، بالاختيار بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. وأفاد دلماس أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف سيزور دولة صديقة هي الجزائر في أواسط هذا الشهر، وهي زيارة لا تسرُ بعض الأوروبيين، وخاصة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. والواضح أن كلا من المغرب وليبيا وتونس وموريتانيا تنفست الصعداء، عندما تطابقت مواقفها لدى التصويت الذي جرى في الأمم المتحدة، للتجديد لبعثتها في ليبيا، فيما أمسكت الجزائر عن التصويت.
والمُلاحظ أن استضافة القاهرة لاجتماع أعضاء اللجنة المشتركة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على مدى عدة أيام، أثار حفيظة الجزائريين الذين يؤكدون أن الحلول ينبغي أن تأتي في إطار المهمة الأممية، في إشارة إلى محاولة المخابرات المصرية التأثير في أعمال اللجنة. أكثر من ذلك يشعر الجزائريون بانزعاج مصري من عودتهم إلى الملف الليبي، خاصة أنهم أقاموا مؤتمرا ناجحا لوزراء خارجية دول الجوار الليبي العام الماضي، وكان له دور في تهدئة الأجواء بين الفرقاء الليبيين. والأرجح أن الجزائر ستستضيف مؤتمرا اقليميا آخر حول ليبيا، استجابة لطلب من حكومة الوحدة الوطنية الليبية، التي تعتبرها الجزائر الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا.
ومن التحولات الاستراتيجية البارزة التي ستجرُها الحرب الأوكرانية، وأزمة النفط والغاز المُترتبة عليها، مشروع الأنبوب العملاق، الذي سينقل الغاز الطبيعي من نيجريا إلى المغرب. ويبذل الطرفان حاليا جهودا كبيرة لتحصيل الاستثمارات اللازمة للمشروع. ومن الواضح أن احتياطات النفط والغاز في أفريقيا باتت تستقطب أنظار الزبائن، الذين كانوا يعتمدون على الغاز الروسي، ويبحثون حاليا عن بدائل، وفي مقدمهم الدول الأوروبية.
وكان العاهل المغربي محمد السادس والرئيس النيجري محمد بوخاري وقعا في العام 2016 على اتفاق لنقل الغاز على مسافة ثلاثة آلاف كيلومتر، عبر ساحل المحيط الأطلسي. وسيكون الأنبوب استكمالا للأنبوب الحالي الذي ينقل الغاز النيجيري إلى بنين وغانا والتوغو منذ 2010. وكشف وزير النفط النيجيري قبل أيام أن الروس زاروه، وأبدوا له رغبتهم بالاستثمار في الأنبوب الجديد. والجدير بالذكر أن الجزائر أجرت أيضا اتصالات مع نيجيريا في العام 2002 لإقامة أنبوب مماثل يعبر منطقة الساحل والصحراء نحو سواحل المتوسط. وتملك نيجيريا العضو في منظمة «أوبك» أكبر احتياط من الغاز الطبيعي في أفريقيا، كما تأتي في الرتبة السابعة عالميا.
في ظل هذه التحولات المرتقبة، سيبقى الحضور التركي في ليبيا يُشكل رقما مهما في الحاضر والمستقبل، لاسيما بعد كسر الجليد بين قادة المنطقة الشرقية وأنقرة، من خلال زيارة وفد من رجال الأعمال والدبلوماسيين الأتراك إلى بنغازي، والوعود التي تلقوها من الليبيين بإشراكهم في صفقات إعادة الإعمار ومشاريع البناء وإصلاح البنية الأساسية في المنطقة الشرقية. ومثل هذا الاتجاه لا يُفرح مصر التي تعتبر أن من حقها أن تحظى بالأولوية في تلك الصفقات. ويعتمد الأتراك، الذين استحوذوا على قطاعات عدة من السوق الليبية، خاصة في الغرب، على الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية، التي توصلوا لها مع حكومة فائز السراج، في خريف 2019 في حضور الرئيس التركي رجب طيب اردوغان.

قادة جدد

مع ذلك يعتبر العارفون بالملف الليبي أن ما يمكن أن يُعيد الأمل لليبيين، المُرهقين من الحروب وأعمال الخطف والقتل، هو الانتخابات الشفافة والمدعومة دوليا. أكثر من ذلك يرى مُطلعون على خلفيات الصراع أن هناك حاجة لقيادات شابة وكفوءة، تتجاوز العداوات والشقاق القائم بين الزعماء الحاليين، وتُعيد بناء ليبيا جديدة. ويُشدد الممثل الخاص الأسبق للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الألماني إيان مارتن، في هذا السياق، على ضرورة توحيد الموقف الدولي القائم حاليا على التنافس والصراع.
ويشترك مارتن، الذي تحدث إلى موقع «عرب نيوز» مع متابعي الملف الليبي، في التأكيد على أن الحاجة للانتخابات ملحة. ويقول إن ذلك هو ما لاحظه، من خلال الإقبال الواسع للمواطنين على التسجيل، لافتًا إلى أن «السكان يبحثون عن التغيير». ونحا باللائمة على نهج المجتمع الدولي «المفكك» ودوره في إفشال الانتخابات في ليبيا، مؤكدا أن الاستقرار لا يعني الاعتراف بشرعية الفائز، وإنما يعني إشراك الجميع في العملية الانتخابية.
لكن مؤشرات كثيرة تدل على أن المسار الانتخابي ما زال متعثرا، لأن هناك من ليست لهم مصلحة في إجراء الانتخابات، لذا فهم مع استمرار الأوضاع الراهنة كما هي. وتُلقى المسؤولية ههنا على مجلس النواب، الذي يبدو أنه يُماطل في اعتماد قانون للانتخابات. وكانت «لجنة الستين» (الهيئة التأسيسية) المكلفة وضع مسودة دستور، انتهت من إعداد مشروعها منذ تموز/يوليو 2017 وأبلغته إلى مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. وكثيرا ما نسمع من الليبيين أن الأجسام الانتقالية مُنتهية الصلاحية، تبذل قصارى الجهد للبقاء في المشهد أطول وقت ممكن.
أما رئيس مجلس إدارة المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح فيُشدد على ضرورة أن يتم الاعداد للانتخابات في مناخ من التفاهم على قواعد اللعبة والالتزام بها. وهنا بيت القصيد لأن الأطراف المتحاربة في ليبيا تعمل على إلغاء بعضها البعض، ولا تؤمن بمقايضة سياسية تسمح بالاتفاق على منافسة شفافة ونظيفة ومسؤولة.
بيد أن المناخ السياسي يتسم حاليا بنوع من الجمود المسلح، لأن الطريق إلى الانتخابات الموعودة ما زالت مفروشة بالحجر ومليئة بالألغام. ودلت الإجراءات التصعيدية المُتخذة أخيرا، ومنها تعطيل الانتاج في الحقول النفطية، على رغبة الجيش، الذي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الخروج من المُختنق الحالي، ولعب دور أكثر تأثيرا في الأحداث. ويُكلف غلق الموانئ النفطية الموازنة خسارة تُقدر بـ60 مليون دولار يوميا. ويمكن اعتبار الدعوة إلى اجتماع لأعضاء مجلس النواب غدا الاثنين في طبرق (شرق) محاولة لإزالة العقبات السياسية والقانونية من طريق الانتخابات. وجرى التمهيد للجلسة باجتماع بين النائب الأول لرئيس مجلس النواب فوزي النويري ومستشارة الأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا ستيفاني وليامز. وأفيد أنهما بحثا «كيفية الدفع بالعملية السياسية نحو إيجاد تسوية توصل للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، في أقرب الآجال». والأرجح أن المجلس سيناقش ما توصلت له اللجنة المشتركة، المُشكلة من أعضاء مجلسي النواب والأعلى للدولة، خلال اجتماعاتها في القاهرة، في إطار إعداد القاعدة الدستورية للانتخابات.
لكن في انتظار انتخابات قد تأتي وقد لا تأتي، يتفاقم الانقسام السياسي في البلد، بوجود حكومتين متنافستين، كما تتعدد مؤشرات عدم الاستقرار، بعد الاشتباكات التي جرت في مدينة الزاوية ومناطق أخرى، خلال الأيام الماضية. وتعزو بعض الأطراف هذا الوضع إلى عجز مجلس الأمن، سواء في القضية الأوكرانية أم في الأزمة الليبية، بحسب ما قال وزير الخارجية الايطالي لويجي دي مايو.

 

 

تعليقات