رشيد خشانة – المُتابع للتطورات الأخيرة في شمال أفريقيا يلحظ أن الجزائر في صدد التحول إلى دولة محورية، مع توالي زيارات وزراء دول عظمى إليها للبحث في عدة ملفات، وبخاصة ملفا الأزمة الليبية وتداعيات الحرب في أوكرانيا على البلدان المغاربية. وبعد المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ووزير الخارجية رمطان العمامرة، في آذار/مارس الماضي، في العاصمة الجزائرية، زارها رئيس الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف الثلاثاء حاملا ملفات عدة، يخص بعضها تفاقم الأزمة السياسية في ليبيا، وتنسيق المواقف مع موسكو في موضوع تسويق الغاز، كي لا تخذل الجزائر الروس، بوصفها أحد مُصدري الغاز الأقرب جغرافيا للاتحاد الأوروبي.
وتستند العلاقات الروسية الجزائرية على «مُذكرة التعاون الاستراتيجي» التي توصل لها البلدان في العام 2001 ما جعل خط موسكو/الجزائر مختلفا نوعيا عن العلاقات مع سائر العواصم المغاربية، منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين (1965-1978). وأعلن لافروف في ختام زيارته للجزائر عن توصُل الطرفين الى مذكرة تفاهم جديدة قال إنها ستكون إطارا للعلاقات الثنائية في المستقبل، من دون إعطاء تفاصيل عن فحواها.
هذا على الصعيد السياسي، لكن ما من شك بأن روسيا سعيدة أيضا بارتفاع حجم المبادلات التجارية بين البلدين إلى 3000 مليار دولار في العام الماضي، على ما قال لافروف. كما أنها سعيدة أيضا بإعلان الأخير أن المجموعات الروسية مهتمة بالاستثمار في الجزائر، ولاسيما في قطاع الطاقة والمناجم والتعدين والاستكشاف والصناعات الدوائية. والأرجح أن الروس يحفظون الود للجزائريين الذين اختاروا التمسك بعدم التدخل في الأزمة الأوكرانية، مع الوفاء بالتزاماتهم إزاء الحليف الروسي. وظهر مثقال ذلك الوفاء أثناء التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار أدان الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ امتنع المندوب الجزائري عن التصويت على القرار. كما عارض الممثل الجزائري إخراج روسيا من عضوية مجلس حقوق الانسان، التابع للأمم المتحدة يوم 7 نيسان/ابريل الماضي.
على هذه الخلفية نقل لافروف دعوة موجهة من بوتين إلى تبون لزيارة موسكو، وهي ستكون، إذا ما تمت، الأولى في نوعها. غير أن العلاقات الثنائية ليست كلها سمنا على عسل، فأخشى ما تخشاه روسيا هو حصول بعض البلدان الغربية المناوئة لها على الغاز من الجزائر، أسوة بإيطاليا التي ارتفع حجم اعتمادها على الغاز الجزائري إلى 40 في المئة، منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية.
والظاهر أن زيارة لافروف أعادت ترتيب الأوراق في ملف العلاقات مع السلطات الجزائرية، سواء ما يخص التعاون بين الحكومتين في الأمم المتحدة، أم في القارة الافريقية، حيث تُنفذ موسكو استراتيجيا تمدُد عسكري واقتصادي وسياسي في منطقة جنوب الصحراء. وزاد عدم الاستقرار الأمني وتوالي الانقلابات في بلدان الساحل من تصميم الدول الأوروبية على السحب التدريجي لقواتها العاملة في إطار قوة «مينورسو» وبعثات عسكرية أخرى، ما ضاعف من الفرص المُتاحة لتعزيز الوجود الروسي في أفريقيا، على جميع الأصعدة. ويُعزى عدم الاستقرار إلى كثرة الانقلابات العسكرية في السنتين الأخيرتين، لكن لا يُعرف ما إذا كانت الجزائر مؤيدة للتمدد الروسي في مالي والنيجر وأفريقيا الوسطى وتشاد، وهي التي كانت تنتقد بشدة وجود قوات أوروبية في أفريقيا تحت أي مسمى. وما من شك بأن الجزائريين مُرتاحون لسحب قوة «برخان» الفرنسية من مالي وكذلك قوات «مينورسو». غير أن المخاوف مازالت قائمة من احتمال استغلال الجماعات الارهابية الفراغ الأمني من أجل الانتشار في اتجاه الشمال، وتهديد الأمن الجزائري، مثلما حدث ذلك في الهجوم المسلح على المجمع الغازي عين أم الناس (أو تيغنتورين) القريب من الحدود الجزائرية مع ليبيا في العام 2013. وقاد تلك العملية، التي أوقعت عشرات القتلى والجرحى، زعيم تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» مختار بلمختار، الذي قُتل لاحقا بضربة فرنسية.
ولا يمكن ألا تشعر الجزائر بالقلق إزاء توسُع الحضور العسكري الروسي في القارة الأفريقية، بعدما وصل عدد البلدان التي تتمركز فيها عناصر «فاغنر» إلى عشرة بلدان. وفي علاقة مباشرة بأوضاع المرتزقة الروس، بات الملف الليبي محور صراع غير مُعلن بين مصر والمغرب من جهة والجزائر من جهة ثانية، خصوصا بعد الزيارة التي أداها وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى الرباط، والتي اعتبرتها الجزائر مُوجهة ضدها.
ولاحت بمناسبة تلك الزيارة، بشكل أوضح، الفجوة العميقة بين الموقفين الجزائري والمصري من الصراع في ليبيا، بعدما أعلن الرئيس عبد المجيد تبون أن الجزائر لا تعترف إلا بحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ما أثار موجة من الانتقادات في وسائل الاعلام المصرية. ودافعت القاهرة في المقابل عن القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس الحكومة المُعين من البرلمان فتحي باشاغا. ويُحيل هذا الخلاف حول الموقف من طرفي النزاع في ليبيا على خصومات سابقة بين الجزائريين والمصريين، مثل مطالبة الجزائر بتدوير منصب الأمين العام للجامعة العربية، كي لا يبقى حكرا على الوزراء المصريين المتقاعدين، وهو اقتراح رفضته القاهرة بشدة.

مبادرة ثلاثية

مع ذلك وافق المصريون والجزائريون في 2015 على إطلاق مبادرة ثلاثية مع تونس، لإيجاد حل سياسي للأزمة في ليبيا. ولم تصمد المبادرة طويلا، بسبب التباعد بين الموقف المصري المتحالف مع اللواء حفتر، والموقفين الجزائري والتونسي المؤيدين للحل السياسي في إطار قرارات الأمم المتحدة. غير أن زيارة شكري للرباط هذه المرة كانت مختلفة عن الزيارات السابقة، إذ تجاوز الوزير المصري ما تعتبره الجزائر خطا أحمر، وهو دعم الموقف المغربي من نزاع الصحراء الغربية. ونسبت وكالة الأنباء المغربية الرسمية إلى شكري قوله إن القاهرة «تدعم الوحدة الترابية للمملكة المغربية والتزامها بالحل الأممي لقضية الصحراء»، وتؤيد ما جاء في قرارات مجلس الأمن، وآخرها القرار رقم 2602 (لعام 2021) الذي رحب بالجهود المغربية «المتسمة بالجدية والمصداقية، والرامية إلى المضي قدماً نحو التسوية السياسية» على ما قال شكري.
ولم يعد مهما في نظر الجزائريين أن الوزير المصري أكد الالتزام بالحل الأممي لقضية الصحراء، طالما أن التعبير الذي سبقه هو «دعم الوحدة الترابية للمملكة المغربية». بهذا المعنى يجوز القول إن هناك بعثرة للأوراق جعلت خطوط تصدير الغاز ترسم ملامح العلاقات السياسية. وأفضل مثال على ذلك ما حصل مع كل من اسبانيا وإيطاليا. ففي حين تدهورت العلاقات الجزائرية الاسبانية، أساسا بسبب التقارب بين مدريد والرباط، في قضية الصحراء، تحسنت العلاقات الجزائرية الإيطالية، لأن روما بعيدة نسبيا عن تداعيات النزاع الصحراوي، وهي تدعو إلى تجاوز الخلافات بين بلدان الاقليم وتكثيف صادرات الغاز من الضفة الجنوبية للمتوسط نحو الضفة الشمالية.
والمُلاحظ أن الجزائر لا تشعر بكونها معنية بالتداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا وحسب، وإنما هي تسعى أيضا للمحافظة على صورة الدولة غير المنحازة في الصراع. وقد عملت منذ اندلاع الحرب، على مسك العصا من الوسط والتزام موقف الحياد قدر المستطاع، بين القطبين الروسي والغربي. كما أنها حريصة على المحافظة على نظرة الغرب لها بوصفها شريكا يحظى بالثقة والمصداقية، خصوصا في مجال التزويد بالنفط والغاز وفي مجال مكافحة الارهاب. ومع أن الجزائر استطاعت أن تبرهن على حيادها، وإن شكليا، في المجال السياسي، فإنها تواجه تحديات أكبر في المجال الاقتصادي، بحكم الطلبات، بل الضغوط التي تمارسها عليها الدول الغربية لزيادة تدفقات الغاز إليها، من أجل التعويض تدريجيا عن الغاز الروسي، وأيضا من أمريكا التي تسعى لتأمين بدائل من الغاز الروسي، كي تسحب سيف الغاز من أيدي موسكو.
وتجلى ذلك على سبيل المثال في مناقشات السفير الأمريكي لدى ليبيا نورلاند مع كل من عقيلة صالح والمشري في القاهرة، والتي ركزها على أزمة إغلاق موانئ النفط وإدارة عائداته. ويُرجح خبراء أن موسكو مستفيدة من وضع إغلاق النفط في ليبيا، لأنها تسعى إلى إحداث نقص حقيقي في سوق الطاقة.

زيارات متلاحقة

ويقول الايطاليون من جهتهم، إنهم من المنخرطين الأوائل في هذا المشروع وإنهم جسدوه على الصعيد الاقليمي بين ضفتي المتوسط، منذ مد أنبوب الغاز «ترانسميد» في العام 1985 الرابط بين الجزائر وإيطاليا، عبر تونس والبحر المتوسط. وهو ما أكدته الزيارات المتوالية لوزير الخارجية الايطالي لويجي دي مايو ورئيس مجلس الوزراء ماريو دراغي خلال زيارتيهما الأخيرتين إلى الجزائر. وتُقدر طاقة الأنبوب، الذي أطلق عليه اسم رجل الدولة الايطالي الراحل أنريكو ماتيي، بـ32 مليار متر مكعب، لكنه لا ينقل حاليا أكثر من 22 مليار متر مكعب فقط. وبناء على اتفاق جديد بين مجموعتي «سوناتراك» الجزائرية و«إيني» الايطالية، ارتفع حجم الصادرات بـ3 مليارات متر مكعب إضافية، مع تعهد الجزائريين بعدم الترفيع في الأسعار.
وبموازاة الترتيبات المتعلقة بفرص توريد الغاز المغاربي إلى أوروبا، عادت الوساطات الدولية إلى البحث عن مخرج سياسي من الجمود الراهن في ليبيا، إذ انطلقت منذ الخميس جولة جديدة من المشاورات بمقر الجمعية السويسرية «مركز الحوار الإنساني» في مدينة مونترو، وهي الجمعية التي تابعت جميع التطورات في الأزمة الليبية منذ2011 وأبقت على جهودها طي الكتمان. وكان للمركز دور حاسم في الوصول إلى اتفاقية «خريطة الطريق» التي أقرها ملتقى الحوار السياسي الليبي، والتي من المقرر أن تنتهي في حزيران/يونيو المقبل.
وهذا الاجتماع هو الأول الذي تستضيفه سويسرا بعد تأجيل الانتخابات التي كانت مقررة لشهر ديسمبر الماضي. وأكدت مصادر مطلعة أن ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي يشاركون في الاجتماعات، إلى جانب قادة التشكيلات المسلحة في الشرق والغرب، فيما لوحظ غيابٌ (أو تغييبٌ) لممثلي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة وحكومة الاستقرار برئاسة باشاغا. لكن لا شيء يضمن أن أي اتفاق جديد لن يُخرق ويتخلى عنه الموقعون عليه.
في السياق نفسه تتجه الأنظار أيضا إلى الاجتماعات المشتركة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، التي يُفترض أن تنطلق اليوم الأحد في القاهرة، برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والتي ستُركز على بحث القضايا الخلافية المتعلقة ببعض مواد مشروع الدستور.
وأفيد أن هناك مقترحين مطروحين على مائدة البحث، الأول إعلان دستوري جديد ذي طبيعة موقتة، يبدأ عمليا من الصفر، أو الموافقة على مشروع الدستور الذي أعدته الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، المعروفة بـ«لجنة الستين» في العام 2017. والأرجح أن الجزائر ستلعب دورا في دعم هذا المسار ليس بالضرورة من خلال اتصالات بالطرفين المعنيين (وهي في قطيعة مع أحدهما)، وإنما من خلال مقاربة اقليمية تستثمر فيها رئاستها القمة العربية المقبلة.

تعليقات