رشيد خشـــانة – على مدى مؤتمرين كبيرين في برلين، وفي حضور جميع الفرقاء المحليين والإقليميين والدوليين، أعادت ألمانيا العربة الليبية إلى السكة، مطلع العام 2020 من دون ضجيج إعلامي. وظلت خريطة الطريق المُنبثقة من «مؤتمر السلام» الأول في برلين، مرجعية للجهود الدولية والإقليمية الرامية لإنهاء الصراع في ليبيا. واستضافت ألمانيا مؤتمرا دوليا ثانيا قبل نهاية السنة نفسها، أطلق عليه «مؤتمر برلين2». وفي الفترة الأخيرة أطلقت برلين حركة دبلوماسية واسعة، مع قليل من الكلام، استعدادا لاجتماع دولي جديد، يمكن أن يكون «برلين 3» أو يمهد له. وإعدادا لذلك المؤتمر استضافت برلين الخميس والجمعة الماضيين اجتماعا، بالتنسيق مع البعثة الأممية للدعم، شاركت فيه كلٌ من أمريكا وفرنسا وروسيا وألمانيا وبريطانيا ومصر وتركيا. وحسب المبعوث الإيطالي إلى ليبيا أورلاندو، يتطلع المشاركون في اجتماع برلين إلى العمل بشكل وثيق مع الممثل الخاص الجديد للأمين العام للأمم المتحدة عبدالله باثيلي «لدعم خريطة طريق ليبية ذات مصداقية، تؤدي إلى وحدة ليبيا واستقرارها وازدهارها». أما السفارة الأمريكية في ليبيا فأفادت أن المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، شارك في اجتماع برلين، برفقة نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون شمال أفريقيا جوشوا هاريس، حيث أكد جميع المشاركين ضرورة إجراء الانتخابات من دون تأخير، على ما قال نورلاند.
هكذا بدأت ألمانيا تعود إلى قيادة الحل السياسي في ليبيا، بتفويض أمريكي، وبأدوار فرعية لكل من تركيا وإيطاليا. ويؤكد الألمان على ضرورة تسريع العملية السياسية، وصولاً إلى انتخابات وطنية برلمانية ورئاسية، وفق إطار دستوري متفق عليه. وينطلق هذا الحرص على تسوية سلمية للصراع، من قناعة مفادها أن استقرار ليبيا شرطٌ ضروري لاستقرار منطقة البحر الأبيض المتوسط. والظاهر أن أمريكا، التي ابتعدت عن الساحة الليبية، في أعقاب مقتل سفيرها لدى ليبيا كريستوفر ستيفنز، العام 2012 عادت إليها بقوة في السنوات الأخيرة، سواء من خلال الموفد الشخصي للرئيس الأمريكي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند (وهو في الوقت نفسه السفير المعتمد لدى ليبيا) أم من خلال المواطنة الأمريكية ستيفاني وليامز، التي ترأست البعثة الأممية في ليبيا، بعد استقالة غسان سلامة، وكانت على تواصل دائم مع كافة الزعماء السياسيين والقبليين الليبيين.
ومن المؤكد أن قرار السلام في ليبيا تم اتخاذه من الرئيس جوزيف بايدن، وأن الدول الحليفة المعنية بهذا الملف متفقة على إطفاء الحريق ووضع حد للمرحلة الانتقالية، التي طال أمدها، بُغية الانطلاق في عملية إعمار واسعة، تمنح كل الأطراف حصتها من مسار إعادة البناء. ويمكن تفسير الموقف الأمريكي الساعي إلى حسم الصراع في ليبيا بأربعة مُتغيرات كبرى، داخل ليبيا وفي المنطقة، أولها فشل محاولات الوساطة بين الغريمين عقيلة صالح وخالد المشري في لقاءات جنيف، التي تمت برعاية ستيفاني وليامز، قبل مغادرتها رئاسة البعثة الأممية. وبالرغم من إحراز بعض التقدم، في حوارات المجلسين، إذ توصلا إلى توافق غير مسبوق بشأن غالبية النقاط التي كانت عالقة، بما في ذلك تحديد مقار المجلسين وتحديد عدد المقاعد في غرفتي السلطة التشريعية، وتوزيع الصلاحيات بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء، وبين مجلس الوزراء والحكومات المحلية، والشكل المحدد للامركزية، بما في ذلك ترسيم عدد المحافظات وصلاحياتها، وآلية توزيع الإيرادات على مختلف مستويات الحكم، وزيادة نسبة تمثيل المكونات الثقافية، مع كل ذلك اتضح للأمريكيين ولغيرهم من المتابعين للاجتماعات أنه لا أمل باتفاق الرجلين عقيلة والمشري على مسودة الدستور، طالما أنهما غير متفقين أصلا على شروط الترشُح للانتخابات. ومن شأن هذه الشروط أن تُقصي حاملي الجنسية المزدوجة والعسكريين، ما يضع اللواء المتقاعد خليفة حفتر خارج السباق الرئاسي. من هنا يبدو أن الأمريكيين وحلفاءهم سئموا من لقاءات الزعماء الليبيين في عواصم عربية وأوروبية مختلفة، وقرروا حسم هذا النقاش البيزنطي. ومن غير المُستبعد أن تلجأ أمريكا، عبر الأمم المتحدة، إلى إنزال عقوبات بمن تُسميهم «مُعرقلي عملية السلام». أكثر من ذلك تؤكد مصادر مقربة من مراكز القرار الأمريكي أن واشنطن ستضغط بقوة لسحب السلاح غير الشرعي من البلد نهائيا، وضبط الجماعات المسلحة. وربما يندرج في هذا الإطار الانسحاب المفاجئ لكتيبة «ثوار طرابلس» بقيادة أيوب بوراس من جميع مقراتها بمنطقة عين زارة، في الضاحية الجنوبية لطرابلس (قوامها نحو 200 دبابة).

ضغوط أمريكية

أما المُتغير الكبير الثاني فيتمثل بتوقُف تدفق الغاز الروسي، عبر «نورد ستريم» على أوروبا الغربية. وفي هذا الإطار كشف موقع «ليبيا المستقبل» أن الإدارة الأمريكية تضغط على الأطراف الليبية، من أجل حسم الخلاف الحكومي بأية صورة من الصور، من دون أن تبدي رأيها في شرعية أي من الحكومتين المتخاصمتين، ولا في مقترح تشكيل حكومة ثالثة. والثابت أن الهدف الاستراتيجي للحكام الروس في المدى المتوسط هو أن يُثبتوا لأوروبا أنها لن تستطيع تأمين حاجاتها من الغاز وحماية مواطنيها من ارتفاع الأسعار، من دون الغاز الروسي. ويُعتبر الغاز، بهذا المعنى، ورقة ضغط مهمة ومصدرا لهز الاستقرار الاقتصادي الأوروبي، الذي يدعم المجهود الحربي الأوكراني. واستطرادا فهو وسيلة لإضعاف الدعم الأوروبي للقوات الأوكرانية.
من هنا تأتي المراهنة الغربية على الغاز الليبي، في المدى المتوسط، لكون مستوى الإنتاج الحالي لا يفي سوى بقدر محدود من حاجات الأوروبيين، وهو ما تم الاتفاق عليه، على الصعيد الثنائي بين ليبيا من جهة، وإيطاليا وفرنسا من جهة ثانية. وفي إطار هذا التحدي لورقة الضغط الروسية، اتجه الأوروبيون إلى الجزائر أيضا للتعويض، وإن جزئيا، عن الغاز الروسي. وتتبوأ الجزائر حاليا الرتبة الثالثة بين مُزودي أوروبا بالغاز الطبيعي، بعد روسيا والنرويج. أما الليبيون فيسعون طبقا للخطة الثلاثية إلى الوصول بالإنتاج إلى مليوني برميل يوميا، حسب رئيس المؤسسة الوطنية للنفط.
وتفطن الإيطاليون باكرا لأزمة الغاز الداهمة، بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب في أوكرانيا، فامتطى رئيس الوزراء ماريو دراغي (قبل استقالته) طائرة خاصة إلى الجزائر، في نيسان/ابريل الماضي، مرفوقا برئيس مجموعة «إيني» للنفط والغاز دسكالزي. ووقع الأخير على اتفاق غازي مع رئيس مجموعة «سوناتراك» الجزائرية، يرفع من حجم واردات الغاز من الجزائربـ 9 مليارات متر مكعب في العام المقبل، ومثلُها في 2024. وتستورد إيطاليا حاليا 21 مليار متر مكعب من الغاز من الجزائر، أي نصف مبيعات الجزائريين من الغاز إلى بلدان الاتحاد الأوروبي.
والأرجح أن ألمانيا، التي تعاني من العرقلة الروسية لتزوُدها بالغاز الضروري لاقتصادها، خاصة في الشتاء، تعمل على إبرام صفقة مماثلة مع الجزائريين وكذلك مع الليبيين، علما أن ليبيا تُزود حاليا إيطاليا بالغاز عبر أنبوب عابر للمتوسط، لكن الكميات في تراجع، بسبب قلة الصيانة والإحجام عن الاستثمار في تطوير البنية الأساسية.
المُتغير الثالث المُؤثر في عودة الاهتمام الأمريكي بمآلات الصراع في ليبيا، ذو طابع إقليمي، ويتعلق بالانتشار غير المسبوق للجماعات المسلحة في منطقة الساحل والصحراء، خاصة بعد انسحاب القوات الفرنسية منها. ويشعر الأمريكيون بأن غريمتهم روسيا لا تتردد في استثمار عدم الاستقرار، والمخاطر التي تُهدد بتقويض الأنظمة العسكرية في المنطقة، من أجل التمدُد أفريقيا. وأثمرت تلك السياسة انتشارا ما انفك يتكاثر لآلاف من عناصر الشركة الأمنية الروسية «الخاصة» فاغنر، ليس فقط على نطاق الجغرافيا الأفريقية، وإنما أيضا في بلاطات الحكام وقصور الرؤساء، وحتى بين حراسهم الشخصيين. ويبدو الأمريكيون على يقين من أن غياب الدولة في معظم مناطق ليبيا وانتشار السلاح وشبكات التهريب عبر الحدود، هي العناصر التي أثرت في زعزعة الاستقرار في الاقليم، وداخل ليبيا.

دورٌمحدودٌ لتركيا

في السياق تأتي عودة الاهتمام الأمريكي بالملف الليبي، ودفعها الفرقاء نحو تسوية سياسية، منعا لانهيار الدولة، والعودة إلى الحرب الأهلية. والأرجح أن واشنطن فوضت لتركيا دورا محدودا في هذه العملية، إذ أن الأتراك بذلوا جهودا كبيرة للجمع بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، لكن جهودهم أخفقت حتى اليوم. أكثر من ذلك دعا الأتراك كلا من الدبيبة وباشاغا إلى اسطنبول حيث يتابع الرئيس أردوغان الملف الليبي بنفسه، وقد وضعاه في صورة مسار التهدئة، الرامي لإنهاء الصراعات المسلحة في ليبيا والاتجاه صوب الانتخابات. ومن خلال قراءة أسماء المسؤولين الأتراك الذين تحاوروا مع الدبيبة والوفد المرافق له، ندرك خطورة المسائل السياسية والعسكرية التي تطرقوا إليها، إذ حضر الاجتماع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو ورئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان. ويبدو أن الأتراك عاتبون على باشاغا لأن اللواء أسامة الجويلي، المُقرب منه والمُقال من إدارة الاستخبارات العسكرية بقرار من الدبيبة، أعلن أن القوات التابعة للحكومة الموازية تعرضت لضربات بـ18 صاروخًا من طائرة مسيرة تركية، وهو ما نفاه الأتراك.
في خط مواز للدور التركي، تسعى مجموعات ليبية إلى البحث عن مخارج من المأزق الذي تردت إليه الأزمة، ومن أبرزها مبادرة ستين عضواً من المجلس الأعلى للدولة بالدعوة لإجراء انتخابات تشريعية في المرحلة الأولى، تفضي إلى برلمان تنبثق عنه حكومة، على أن تكون المهمة الأساسية للبرلمان الجديد هي «إنجاز الاستحقاق الدستوري وإجراء الانتخابات الرئاسية» وفق ما جاء في بيان مشترك أصدروه أخيرا. وطبقا لرأي أولئك الأعضاء، يمكن إجراء الانتخابات التشريعية بناء على القانون رقم 4 لسنة 2012 الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي (برلمان مؤقت) من دون الحاجة إلى اعتماد قانون جديد، أو قاعدة دستورية.

الموفد الأممي الثامن

في هذه الأجواء تأتي أهمية المُتغير الرابع، وهو توصُل مجلس الأمن إلى اتفاق على تسمية الدبلوماسي السينغالي عبد الله باثيلي، مبعوثا أمميا إلى ليبيا، بعد حوالي 11 شهرا من خلو المنصب الأممي. ولئن لن تكون العلاقة بين الأمريكيين والمبعوث الأممي الثامن بمثل انسيابية العلاقة مع مواطنتهم وليامز. إلا أن المبعوث الجديد يُدرك، بخبرته الطويلة في الشؤون الأفريقية، أن المُنتظر منه هو أن يكون قابلة الحل السياسي، بعد إخفاقات متتالية لأسلافه السبعة. وقد عجز سلفُهُ السلوفاكي يان كوبيش عن إنجاز أية خطوة نحو الحل السياسي، لأنه كان يعمل من جنيف ولا يعرف تعقيدات المجتمع الليبي.
وفي سياق الحل الذي هو قيد التبلور حاليا، في مطابخ القرار الأمريكية-الأوروبية، ستتحول حكومة الدبيبة إلى حكومة تكنوقراط مُصغرة يقتصر دورها على تصريف الأعمال، في إطار توافق المجتمع الدولي على أنّ خريطة الطريق الليبية «يجب أن تنتهي بانتخابات». وهذا ما يقتضي تفويض حكومة واحدة لقيادة المشهد والاشراف على الانتخابات ووضع حد للانقسام، لاسيما بعد تحوُل الأزمة إلى صراع مسلح. ويتطلب ذلك الضغط على مجلسي النواب والأعلى للدولة في اتجاه القبول بحكومة موحدة، قادرة على إنجاز قوانين انتخابية ومرجعية دستورية، متفق عليها تقود إلى الانتخابات.
بهذا المعنى يمكن تفسير اللقاء الذي جمع بين السفير نورلاند وفتحي باشاغا في أعقاب عودة الأخير من زيارة تركيا، حيث أقنعه الأتراك على الأرجح بالانسجام مع الوضع الجديد، والتخلي عن محاولات استخدام القوة للإطاحة بحكومة الوحدة. وفي حقيقة الأمر يصعب القول اليوم إن الزعماء الليبيين يملكون قرارهم، بل هم مضطرون للانسجام مع القرار الدولي الذي يتم إبلاغه إليهم. وكان رد الفعل على تعيين باثيلي موفدا أمميا إلى ليبيا، مثالا واضحا على أن القرار النهائي ليس بأيديهم، فقد اعترض مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة طاهر السني علنا على تسمية باثيلي، ثم لم يلبث رئيس حكومته الدبيبة أن أعلن موقفا معاكسا قائلا «نؤكد من جانبنا دعمنا الكامل لعمله، وسندفع باتجاه الحل السياسي الشامل الذي يُعجل بإصدار قاعدة دستورية توافقية، لإجراء الانتخابات».
هذا الحل السياسي الشامل سيأتي بلا ريب من العواصم المتداخلة في الأزمة الليبية، فقد حاولت كل من فرنسا، وبدرجة أقل إيطاليا، قيادة مسار التسوية السلمية في ليبيا، لكن بلا نتيجة. ومنذ 17 كانون الأول/يناير 2020 دخل الألمان على الخط، بالتنسيق أساسا مع الأمريكيين، فأقاموا مؤتمرا دوليا في برلين، بمشاركة قادة وممثلي 14 دولة بينها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. وأثمرت تلك المبادرة وضع خريطة طريق، باتت تُعرف بـ«خريطة برلين» لحلحلة الأزمة في ليبيا من خلال إجراء انتخابات عامة في الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2021. ثم دعا الألمان إلى مؤتمر دولي ثان اقتصر على يوم واحد، تبنى وثيقة ختامية من 58 بنداً، بالتوافق بين ممثلي الدول المشاركة وعددها 17 دولة.
وبسبب تعطل المسار الانتخابي، يُرجح أن يدعو الألمان إلى مؤتمر دولي جديد حول ليبيا، بمشاركة الدول المعنية بالملف الليبي، بما فيها أعضاء مجلس الأمن الدولي. والأرجح أيضا أن المشاركين في المؤتمر سيُركزون على تحديد آليات ناجعة لتنفيذ الخطوات التي قررها مؤتمر برلين2، ومن أبرزها سحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من البلد من دون تأخير، وإصلاح قطاع الأمن ووضعه تحت إشراف سلطة رقابية مدنية موحدة وتوحيد الجيش، إضافة إلى حسم المرجعية القانونية اللازمة لإجراء انتخابات حرة وشفافة. وعلى الرغم من المخاوف التي أبداها البعض من أن تلقى هذه المقررات مصير سابقتيها في مؤتمري برلين الأول والثاني، فإن الحزم الذي تتحدث به أمريكا يُعزز التوافق الدولي على ضرورة الإسراع بحل سلمي للقضية الليبية، بما يضمن سيادة البلد ووحدته. وانطلاقا من قناعة الأمريكيين والأوروبيين بأن أمنهم مرتبطٌ بالأمن في الضفة الجنوبية للمتوسط، لا يُستبعد أن تلجأ أمريكا إلى شكل من أشكال الضغط غير الكلاسيكي لإخراج الأزمة الليبية من عنق الزجاجة.

تعليقات