رشيد خشـــانة – على الرغم من استمرار الصراع بين الفرقاء السياسيين، تسعى ليبيا إلى الترفيع من إنتاجها النفطي إلى مليوني برميل يوميا، وهو مستوى لم تبلغه منذ 2011. ويعتمد هذا الهدف على الخطة الثلاثية، التي يتم تنفيذها بالتعاون مع الشركات العاملة في القطاع، ومنها مجموعتا «إيني» الإيطالية و«توتال إينرجيز» الفرنسية. ويقدر الإنتاج الليبي حاليا بمليون ومئة وثلاثة وستين ألف برميل يوميا. وتشرف على هذا الملف «لجنة متابعة ميزانية المؤسسة» بديوان مجلس الوزراء، وفق ما جرى الاتفاق عليه، عند إعداد الموازنة الاستثنائية لزيادة الإنتاج النفطي .

جاء ذلك في الاجتماع العاشر الذي عقدته لجنة المتابعة بديوان مجلس الوزراء الخميس الماضي، والذي تمت فيه مناقشة الخطة الثلاثية للمؤسسة. لكن يخشى الليبيون من التقلبات في الأسواق النفطية العالمية وانعكاساتها على صادراتهم. ولم يُخف محمد عون وزير النفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية، التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، انتقاد حكومته الشديد للقرار الذي اتخذته الدول الصناعية الكبرى السبع، والقاضي بوضع سقف لسعر النفط الروسي. وحذر عون من عواقب ذلك القرار، مَنبها إلى أنه قد يسبب اضطرابات في الأسواق النفطية العالمية. مع ذلك أبدى عون تفاؤله بأن تماسك منظمة البلدان المصدرة للنفط «أوبك» و«أوبك بلس» سيساعد على تخطي الأزمة، على ما قال. وشكل غياب الاستقرار السياسي والأمني في البلد، أبرز العوامل التي حالت دون استفادة ليبيا من ارتفاع أسعار النفط. وكانت الاشتباكات التي جدت بين مجموعات مُناصرة للدبيبة وأخرى مؤيدة لباشاغا في العاصمة طرابلس، الشهر الماضي، تسببت بوقف إنتاج النفط أكثر من مرة.

احتياطي غازي

على العكس من ذلك وعلى سبيل المقارنة، تضاعفت أرباح «توتال» الصافية 3 مرات، على أساس سنوي في الربع الثاني من العام الجاري، لتسجل 9.8 مليار دولار، مقابل 3.46 مليار دولار قبل عام، بحسب إعلان الشركة في نهاية تموز/يوليو الماضي. وقال الخبير الليبي في شؤون النفط والغاز طارق شلماني لـ«القدس العربي» إن تصدير الغاز يشكل أحد مصادر الدخل الاقتصادي الرئيسة لليبيا. وتتبوأ ليبيا حاليا الرتبة 21 عالميا من حيث احتياطي الغاز وبطاقة إنتاجية تقدر بقرابة 2.2 ملياري قدم مكعب يوميا. وتصدر ليبيا الغاز إلى إيطاليا منذ 2007 عبر خط أنابيب «الدفق الأخضر» الذي يقدر طوله بـ520 ميلا بحريا. ويعتمد هذا المشروع المشترك بين «المؤسسة الوطنية للنفط» ومجموعة «إيني» الإيطالية، على عقود طويلة المدى مرتبطة بسعر النفط.
وقدر شلماني الدخل العادي من صادرات الغاز الطبيعي في السنوات الماضية بـ1.1 مليار دولار سنويا. ويمكن أن يرتفع إلى 3.3 مليار، إذا ما استقرت أسعار النفط عند حدود 100 دولار للبرميل. وتشير التوقعات إلى أن سعر البرميل سيبقى فوق 100 دولار حتى 22 كانون الأول/ديسمبر المقبل.
ولا يمكن لليبيا بحكم تلك العقود طويلة المدى ان تتنصل من تعهداتها وتبيع غازها في السوق الفورية، ما يُحقق لها أرباحا تصل إلى 11 مليار دولار. غير أن هذا السلوك يُسيء إلى سمعتها في الأسواق، وربما يُعرضها إلى متابعات قضائية لدفع تعويضات كبيرة، أو الحجز على أية أصول تابعة لها.
وأكد خبراء أن الاقتصاد الليبي عانى من خسائر كبيرة نتيجة عدم التطوير الداخلي وغياب الأمن، فضلا عن الركود الاقتصادي وعدم استقطاب استثمارات من القطاع الخاص. وستواجه ليبيا تحديا كبيرا إذا ما تعثر إنتاج النفط والغاز في الفترة المقبلة بدوافع سياسية، لأنها بحاجة إلى العوائد لتمويل مجهود إعادة الإعمار. وتحتاج ليبيا إلى نحو 500 مليار دينار ليبي (102.5 مليار دولار) في السنوات العشر المقبلة، لكي تتمكن من إعادة إعمار البلد.
يعتقد شلماني أن ليبيا تستطيع تعزيز مكانتها في السوق الدولية كمنتج مهم للغاز، غير أن ذلك يحتاج إلى خطة لتطوير بنيتها التحتية وفتح الباب لمزيد من أعمال التفتيش والاستكشاف. وحسب معلومات من إدارة الإنتاج في «شركة الخليج للنفط» (قطاع عام) أن لدى ليبيا احتياطيا ضخما من الغاز الطبيعي غير مستكشف حتى اليوم. وأماطت المؤسسة الوطنية للنفط مؤخرا اللثام عن استراتيجيا تتضمن زيادة في إنتاج الغاز ليصل إلى 3.5 مليار قدم مكعب يوميا بحلول العام 2024 وبكلفة في حدود 60 مليار دولار من الموازنة الحكومية، والباقي يوفره مستثمرون من المجموعات النفطية العالمية. واستبقت مجموعات دولية نتائج الحرب الروسية الأوكرانية لتبدأ مفاوضات مع المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، للبحث في إمكان الرفع من الامدادات الليبية من الغاز إلى الدول الأوروبية.
وفي هذا الإطار تم الاتفاق بين الرئيس السابق للمؤسسة مصطفى صنع الله ونائب الرئيس التنفيذي لمجموعة «بريتش بتروليوم» غوردون بيرل على استئناف أعمال الاستكشاف في ليبيا، طبقا للاتفاق الذي توصل له الطرفان في 2018. كما بحث صنع الله هذا الأمر مع الرئيس التنفيذي لمجموعة «توتال» باتريك بواني في آذار/مارس الماضي، إذ تطرقا لتطوير الإنتاج والترفيع من حجمه من خلال الاستكشافات الغازية والنفطية. وتطرق صنع الله للموضوع أيضا مع مجموعة «إيني» الإيطالية، من أجل ضمان مساهمتها في الرفع من الإنتاج بُغية الاستجابة لزيادة الطلب على الغاز في السوق الدولية. ويحتاج تحقيق هذا الهدف إلى استتباب الأمن وترسيخ الاستقرار في كامل ربوع ليبيا، ليس فقط للترفيع من مستويات الإنتاج، وإنما أيضا لضمان المحافظة على تلك المستويات. وهناك تهديدات أمنية تلقي بظلالها على الوضع العام في ليبيا،، بما فيه الوضع الاقتصادي، من بينها انتشار عناصر «فاغنر» الروس سواء في الشرق الليبي أم في دول الجوار. ويُرجح الخبير شلماني أن تضغط أمريكا والقوى الكبرى على الفرقاء الليبيين لكي تفرض عليهم حدا أدنى من الاستقرار السياسي والأمني، من أجل ضمان وصول إمدادات الغاز الليبي إلى البلدان الأوروبية والتعويض، وإن جزئيا، عن نقص إمدادات الغاز الروسي. لكن حتى في حال لجأت القوى الكبرى إلى الضغوط، وتحسن تدفق الغاز فعلا، لن يغير ذلك كثيرا من تداعي صحة الاقتصاد الليبي العليل، إذ أنه يُعاني من تبعات الخلاف السياسي والحروب التي شهدها البلد، بينما تتعاظم بشكل يومي الأزمة المالية المتمثلة في ندرة السيولة لدى المصارف الحكومية والخاصة على السواء، نتيجة احتفاظ التجار بأموالهم في خزائنهم الخاصة، خشية اضطراب الأوضاع الأمنية، أو اندلاع حروب جديدة، تؤثر في عمل المصارف. وتوقع صندوق النقد الدولي استمرار ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم في ليبيا خلال العام الجاري ليصل إلى 3.7 في المئة وذلك وفق تقرير نقلته وكالة الأنباء الليبية الرسمية في طرابلس.

توقع نزول التضخم

وتوقع التقرير أن يصل نمو الناتج المحلي الليبي إلى 3.5 في المئة خلال العام الجاري، وأن يرتفع إلى 4.4 في المئة العام المقبل لينزل إلى حدود 3.6 في المئة في 2027. وأشار التقرير إلى أن التوقعات متوسطة الأجل منخفضة أيضا، على خلفية الحرب وضعف القدرات. وفي آذار/مارس المنصرم طالب محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير خلال اجتماع مع مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي جهاد أزعور، ونائب مدير إدارة الأسواق المالية والنقدية ميغال سافاستانو، دعم الصندوق لقدرات المركزي الليبي في مجال الإحصاءات والمؤشرات والسياسات النقدية وبرنامج زيارات الفرق الفنية للصندوق إلى ليبيا. أما منظمة هيومن رايتس ووتش، فحذرت، في تقرير خاص، من أن الغزو الروسي لأوكرانيا تسبب في تفاقم المشاكل الغذائية في خمس دول عربية، بينها ليبيا، التي ارتفعت فيها الأسعار.
وكشفت المنظمة، في تقرير مطول رصد أزمة الغذاء وتداعياتها، أن الواردات من أوكرانيا تشكل أكثر من 40 في المئة من واردات القمح إلى ليبيا. وأضافت «خلال الأسبوع الأول من الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا حلّقت أسعار القمح والدقيق وارتفع معها قلق التجار من انقطاع المخزون، فزادوا الأسعار بنسبة تصل إلى 30 في المئة». كما كشفت المنظمة أنه، طبقا لبرنامج الأغذية العالمي، وقبل أزمة أسواق الغذاء الدولية، جراء الحرب في أوكرانيا، «كان 12 في المئة من الليبيين (أو 511 ألف شخص) يحتاجون إلى المساعدة في 2022». وهذا ما يُرتب أعباء إضافية على أي حكومة تستلم السلطة، خصوصا في ظل الزيادات المتوقعة في الأسعار خلال الأشهر المقبلة. وفيما تبدو حكومتا الدبيبة وباشاغا عاجزتين عن إيجاد حلول حقيقية للأزمة الاجتماعية، أطلقت حكومة الدبيبة مبادرة لكسب الأصوات في الانتخابات المقبلة، تتمثل بتيسير إجراءت الزواج وتملُك شقة للشباب. وفي بلد يشعر فيه الشاب بصعوبة العيش بلا حلم، أتت «مبادرة الاسكان الشبابي» لتُحيي الآمال بالزواج والحصول على بيت. وفي المرحلة الأولى من هذا المشروع، وعدت الحكومة بتمكين 18 ألف شاب من الحصول على قروض، كما وعدت بتوزيع 21 ألف قطعة أرض سكنية.
وفي بنغازي (شرق) تقدم 51759 مرشحا للاستفادة من برنامج الإقراض السكني. وأفاد بيان صادر عن حكومة الوحدة أن اجتماعا لمسؤولين حكوميين وخبراء خُصص أخيرا لدرس آلية العمل في برنامج المرحلة الثانية من «الإقراض وتوزيع الأراضي» على أن يبدأ التوزيع بعد أن تستكمل اللجان الفرعية بالبلديات أعمال الفرز للمتقدمين وتحديد المستفيدين، الذين يحظون بالأولوية. وتندرج هذه المبادرة في إطار محاولة احتواء غضب الشباب، الذي يعاني من أزمات مختلفة، وتُضطر فئات منه للانخراط في شبكات المخدرات أو في الميليشيات المسلحة لضمان الحصول على راتب شهري. من هنا يبدو من الصعب أن يُصلح الاقتصادُ المجتمع في ظل ضغوط الميزانية التي يذهب نصفها إلى المنطقة الشرقية ويُستنفد قسم منها في صرف الرواتب وشراء السلاح، وتُوجه باقي النفقات إلى الوزارات وأعضاء البرلمان والمؤسسات السياسية. وعليه فإن الحكومة الحالية والحكومات المقبلة ستُلاقي صعوبة كبيرة في تمويل خطط إعادة الاعمار.

تعليقات