رشيد خشــانة – المسار الانتخابي سيبقى مؤجلا، والجماعات المسلحة ستبقى المُتحكمة في ظل تنازع الحكومات على السلطة شرقا وغربا، وفكرة إدماج الحكومتين في حكومة واحدة مصغرة طُويت نهائيا.

أهم ما ورد في كلمة رئيس الحكومة المُعينة من مجلس النواب فتحي باشاغا، إثر عودته من زيارة مطولة إلى تركيا، تأكيدُه أن حكومته ستمارس عملها من مدينتي سرت وبنغازي، ما يعني الإصرار على إعادة البلد إلى مربع التقسيم، بوجود سلطتين متوازيتين ومتصارعتين في الشرق والغرب. ويعني هذا أن المسار الانتخابي سيبقى مؤجلا، وأن الجماعات المسلحة ستبقى المُتحكمة بالكانتونات التي سيطرت عليها في ظل تنازع الحكومات على السلطة شرقا وغربا. كما يعني أيضا أن فكرة إدماج الحكومتين في حكومة واحدة مصغرة طُويت نهائيا. ولم يتوان باشاغا عن إلقاء مسؤولية الانقسام الحالي على «وضع إقليمي ودولي» لم يُعرفه قائلا إنه «لا يريد تقارب الليبيين أو تحقيق المصالحة بينهم». وليت باشاغا حدد بوضوح من هي الأطراف الإقليمية والدولية التي تُعطل مسار الانتخابات في ليبيا، مثلما اعترف، لأول مرة، بأن أنصاره أخفقوا في الدخول إلى طرابلس والسيطرة عليها.
والأرجح، أنه سيكون تحت حماية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر وأولاده المسيطرين على الشرق الليبي، فالقوة العسكرية لباشاغا لا يُعتدُ بها، وهو الأمر الذي انكشف لدى محاولة الدخول عُنوة إلى مصراتة ثم إلى طرابلس. وتذكر مصادر قريبة من مجلس النواب أن باشاغا تلقى 6 مليارات دينار ليبي لتصريف أعمال حكومته، لكن لم يُعرف ما إذا كان ذلك من مصرف ليبيا المركزي (الذي يُشرف عليه الدبيبة) أم من جهة أخرى. وحدد باشاغا طريقة تدخُل حكومته مستقبلا بالعمل من خلال «وضع الخطط لدعم البلديات». غير أن غالبية العمداء وأعضاء المجالس البلدية المنتخبون غادروا مواقعهم في السنوات الأخيرة لأسباب مختلفة، فضلا عن انقطاع الموارد عن البلديات جراء الأزمة السياسية، ما حال دون تنفيذ المشاريع الموكولة إليها. والأرجح أن هذا التعطل سيستمر في الفترة المقبلة، وهناك من توقع أن يستمر إلى 2024. ولا يُنتظر من البعثة الأممية أن تُحرك السواكن وتلعب دور الجسر بين الحكومتين المتنافستين، بسبب شدة الخلاف الذي يزداد تعقيدا من يوم إلى آخر، وخاصة جراء تصريحات باشاغا النارية.
ويُحاول الدبيبة أن يُعطي الانطباع بأن حكومته باقية وأنها ما انفكت تخدم الليبيين وتنفذ مشاريع يمكن أن تغير من حياتهم، من قبيل ترميم محطة المسافرين في مطار طرابلس الدولي، لإنهاء معاناة المسافرين حاليا من السفر عبر مطار معيتيقة. وترأس الدبيبة مؤخرا اجتماعا في مكتب رئيس الوزراء، شارك فيه الجانب الإيطالي، لدرس ما وصل إليه المشروع، الذي يرتدي أهمية كبيرة لسكان طرابلس والمنطقة الغربية بأسرها. وكان مطار طرابلس الدولي أغلق منذ صيف 2014 بعدما دمرته الاشتباكات المسلحة التي جرت في محيطه. وتبلغ الكلفة الإجمالية للمشروع الذي تنفذه شركات إيطالية، نحو 80 مليون يورو، ويشمل بناء محطتين، واحدة محلية والثانية دولية.
ولا يُعرف إن كان قائد الجيش الإيطالي فرانشيسكو باولو فيليوولو، رئيس العمليات المشتركة لهيئة أركان الدفاع، معنيا بذلك الاجتماع، لمناسبة زيارته إلى مدينتي طرابلس ومصراتة مؤخرا، إذ خُصص الاجتماع لدرس «إعادة تشكيل التعاون الليبي الإيطالي في مصراتة». وكانت إيطاليا أرسلت مستشفى ميدانيا إلى مصراتة أثناء الحرب على تنظيم «داعش» كما أرسلت مئتي جندي لحراسة المستشفى.
على هذه الخلفية تتكثف الجهود الدولية المتداخلة في الملف الليبي، وفي مقدمها الدور التركي، الحريص على المحافظة على ساق مع حكومة الدبيبة وأخرى مع باشاغا. والظاهر أن تركيا العضو في الحلف الأطلسي، تقوم بدور مُتفق عليه مع الأمريكيين، لتذويب الخلافات بين الأطراف الليبية المتصارعة، وهو ما استدعى إطالة زيارة باشاغا إلى تركيا، ثم توجيه الدعوة إلى عقيلة صالح لزيارة موسكو في الفترة المقبلة. كما أن عقيلة صالح أدى أيضا زيارة غير مسبوقة إلى قطر، التي كان يكيل لها الاتهامات بالتدخل في شؤون ليبيا. وامتدت هذه الاختراقات والمراجعات إلى روسيا، إذ فتحت موسكو صفحة جديدة مع غرمائها السعوديين حول الملف الليبي.
وفي السياق عقد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف اجتماعا مع سفير السعودية في موسكو. وأفادت قناة «الوسط» الليبية أنه جرى خلال الاجتماع تبادل مُعمق لوجهات النظر حول القضايا الإقليمية الراهنة، مع التركيز على الوضع في ليبيا. وأفاد بوغدانوف، وهو في الوقت نفسه الممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا، أن بلاده تبحث عن مقر جديد لمكاتب السفارة الروسية لدى ليبيا، تمهيدا لمعاودة فتحها، كما أنها تستعد لتسمية سفير جديد في طرابلس. وليس التعطُل السياسي في ليبيا هو الملف الوحيد الذي بحثه الرجلان، وإنما شمل الاجتماع أيضا موضوع الغاز والنفط، في علاقة بكل من السعودية والإمارات. وتعمل الدول الثلاث (ليبيا وروسيا والسعودية) ضمن تحالف «أوبك بلس» الذي يضم بعضًا من أكبر مصدري النفط في العالم، وهو يحاول إيجاد توازن في السوق العالمية، التي شهدت تذبذبًا في أعقاب إعلان الحرب الروسية على أوكرانيا، وبعدما أدت العقوبات الأمريكية والأوروبية إلى خفض صادرات النفط الروسية.
فبعد الصعوبات التي واجهتها روسيا في أوكرانيا تبدو الوجهة الرئيسة لتمدُد المصالح الروسية في العالم، ممثلة في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، حسب الباحث الفرنسي جان بيار فيليو. ويُرجح فيليو أن موسكو ستعوض بتقدُمها على الساحتين الشرق أوسطية والأفريقية عن عثراتها في أوكرانيا. كما يعتقد أن إحدى نقاط القوة في شخصية بوتين تتمثل بقدرته على إدارة سياسات هجومية عدة في ساحات مختلفة بشكل متزامن، بينما ما زال القادة الغربيون يتعاطون مع الصراعات بأشكال مختلفة حسب المناطق. ولوحظ أن بوتين أعلن في كلمته الترحيبية بالسفير الليبي الجديد لدى روسيا محمد المغراوي، أن الروس «يتطلعون إلى استئناف التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات، مع استقرار الوضع الداخلي في ليبيا».
وفي معلومات مصادر دبلوماسية غربية أن الجماعات التي كانت تسيطر على عدد من موانئ وحقول النفط لم ترفع عنها الحصار في أواسط تموز/يوليو الماضي، إلا بعد مفاهمات بين الدبيبة والجنرال المتقاعد خليفة حفتر، تقضي بأن يصرف الأول للمناطق التي يسيطر عليها الثاني حصة لم يُعرف مقدارها من إيرادات النفط والغاز. كما شملت هذه المقايضة عزل رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، وهو تكنوقراطي يحظى بالاحترام من المجموعات النفطية العالمية، وإحلال فرحات بن قدارة، المقرب من الإمارات، في مكانه. لكن لم يتسن التأكد من وجود هذه الصفقة.

مجلس رئاسي؟

على صعيد متصل تجري حاليا اتصالات بين الروس وعقيلة صالح استعدادا للزيارة التي سيؤديها الأخير إلى موسكو قريبا. وتندرج الزيارة، بعد زيارتين مماثلتين إلى كل من قطر وتركيا، في إطار حملة سياسية لتسويق مبادرة ترمي لتشكيل مجلس رئاسي برئاسته في مقابل تسهيل إجراء انتخابات نيابية. والأرجح أن هذه المبادرة هي أهم مسألة سيناقشها صالح مع الروس، بعدما طرحها على ما يبدو، على غريميه السابقين قطر وتركيا، لدى زيارتيه الأخيرتين إلى كل من الدوحة واسطنبول. ويأخذ أعضاء مجلس النواب على رئيس مجلسهم تهرُبه من الاجتماع معهم لوضعهم في صورة الاتصالات المكثفة التي يقوم بها. وتوجس عديد النواب من أن عقيلة يتحرك في إطار مشروع شخصي، ولذلك فهو لم يصطحب معه وفدا من النواب خلال زيارتيه لاسطنبول والدوحة.
في السياق يؤكد عارفون بشؤون مجلس النواب أن العدد الأقصى من النواب المُباشرين للنيابة حاليا لا يتجاوز 47 نائبا من أصل الفائزين في انتخابات 2014 وعددهم 200 نائب. ويُعزى ذلك إلى الاستقالات والوفيات، لا بل هناك من أعضاء المجلس من فضل الهجرة إلى بلدان عربية أو أجنبية والاقامة فيها، لاعتبارات أمنية. وعموما لم يترك مجلس النواب صورة لامعة عن أدائه السياسي والأخلاقي لدى الرأي العام الليبي. ويتأكد ذلك بالخصوص حين تُنشر وثائق تخص الفساد وهدر المال العام، أسوة بالتقرير الأخير لديوان المحاسبة. وأظهر التقرير ارتفاعا ملحوظا في باب الرواتب وانتداب قرابة 270 ألف موظف جديد في 2021. وعلى سبيل المثال ورد في التقرير أن الترفيع من رواتب الدبلوماسيين خلال السنة نفسها كلف الميزانية 544 مليون دولار، بالإضافة لتضخم رواتب الموظفين التابعين لمجلس الوزراء.
ومن المخالفات الأخرى التي رصدها تقرير ديوان المحاسبة، نفقات السفر والمبيت لموظفين تابعين لمجلس الوزراء، والتي بلغت إجمالا أكثر من 4 ملايين دينار. كما لوحظ إيفاد أشخاص لا تربطهم علاقة وظيفية برئاسة مجلس الوزراء، وسداد قيمة حجوزات إقامة بالفنادق، داخل العاصمة طرابلس، لأشخاص من دون توضيح صفاتهم أو تبعيتهم الإدارية لمجلس الوزراء. وأبرز التقرير إجراءات انتداب لموظفين بأضعاف رواتبهم، وتكليف مستشارين لمجلس الوزراء، من دون عقود تُحدد مدة عملهم ومقرات أعمالهم، ومن دون إرفاق مستندات بمؤهلاتهم العلمية وسنوات الخبرة التي تلقوها، إن تلقوا فعلا خبرة. وفي السياق اتهم ديوان المحاسبة مصلحة أملاك الدولة بـ«التراخي» و«التقاعس عن أداء مهامها» والمتمثلة في متابعة وحصر أملاك الدولة، سواء في الداخل أو الخارج. ورصد مُحررو التقرير تضاربًا في الاختصاصات، لاسيما في ما يتعلق بإجراءات تخصيص المشاريع الاستثمارية بين مصلحة أملاك الدولة وعدة جهات استثمارية أخرى. أكثر من ذلك، لاحظ واضعو التقرير عدم التطابق بين أسعار البيع المعتمدة داخل مصلحة أملاك الدولة والواقع الراهن، إذ يجرى التعامل بالأسعار المعتمدة منذ العام 1964 مع إضافة زيادة سنوية لا تتجاوز 5 في المئة.
وتوالى في الأيام الأخيرة صدور التقارير التي تكشف النقاب عن اتساع الفساد الذي ينخر أجهزة الدولة، ومنها دراسة لمعهد الأمم المتحدة الإقليمي لأبحاث الجريمة والعدالة، نقل فحواها مركز «أوراسيا ريفيو» للدراسات والبحوث الأمريكي. وقد أظهرت الدراسة أن متوسط الخسارة السنوية من التدفقات المالية غير المشروعة في ليبيا يقدر بـ1.2 مليار دولار. وأوضح المركز أن هذه الخسارة تستفيد منها مافيا تهريب المهاجرين، التي تدر سنويا حوالي 236 مليون دولار، بالإضافة إلى حوالي 30 مليون دولار من تهريب الأسلحة الصغيرة والخفيفة، في ظل ضعف السيطرة الفعالة على الأراضي الليبية الشاسعة، وغياب سلطة الدولة من بعض المناطق، وخاصة الجنوب. وفي السياق أكد التقرير أن قيمة تجارة السلاح الليبي، في فترة ما بعد سقوط القذافي، تراوحت بين 15 و30 مليون دولار سنويا، مشيرا إلى أن تهريب النفط يشكل 20 في المئة من دخل الميليشيات.
في هذا المناخ اهتزت الثقة بين النخب السياسية والمواطن الليبي، الذي يعاني من تدهور أوضاعه المعيشية واضطراب حبل الأمن، ما جعله يشعر بالنقمة على جميع الحاكمين من أي فريق كانوا، وهذا ما يُهدد باندلاع حركات رفض واحتجاج واسعة لا قبل لأجهزة الدولة بمواجهتها. وعليه فإن الحل الوحيد لاحتواء الانفجارات الاجتماعية المتوقعة يمرُ عبر التعجيل بإجراء الانتخابات وقبول جميع الأطراف بنتائجها.

تعليقات