حاوره: رشيد خشــانة
– استبعد الأكاديمي الليبي الدكتور أحمد الأطرش إيجاد مخرج من الأزمة السياسية في ليبيا «لأن التوصل إلى توافق حول قاعدة دستورية سينهي كل الأجسام الحالية، التي أصبحت تتنفس فساداً وقبحاً» على ما قال. واعتبر الدكتور الأطرش، وهو أستاذ السياسة والعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة طرابلس، أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ما زالت تتأرجح في مواقفها حيال الملف الليبي منذ اندلاع «الثورة» عام 2011. لكنه استدرك أن هذا لا ينفي أن ليبيا ليست ضمن أولويات الاهتمام بالنسبة للمطبخ السياسي الأمريكي، وإنما هي تشكل مكونا من ملفات أكبر. وهنا نص الحوار:

○ ما هي أبرز التغييرات التي عرفها المجتمع الليبي بعد 2011؟
•ما حدث مجرد تراكمات ناجمة عن حقبة «النظام» السابق ما أفضى إلى رفض وكشف وممارسة كل ما كان ممنوعاً أو مرفوضاً أو مكبوتا، بما فيها من إيجابيات وسلبيات. ولعل أبرزها إفرازات التحول من التفرد بشمولية الحكم، إلى تعددية الأقطاب المتسلطة في المشهد الليبي. وقد يرى البعض أن ليبيا كانت أكثر أماناً إبان حكم النظام السابق، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن يجب التمييز بين أمن السلطة وأمن الدولة بكافة عناصرها الرئيسة، المتعارف عليها في نظرية الدولة (شعب وإقليم وسلطة). ما كان في ليبيا، وغيرها من الدول ذات الطابع الأوتوقراطي، هو تكريس أمن الحاكم، أما أمن المحكوم/المواطن فهو مسألة تحصيل حاصل.

○ دأب النظام السابق على مطاردة معارضيه وسجنهم، هل كان ذلك يستهدف تيارا بعينه أم شمل كل التيارات؟
•كان الهدف تصفية أي خصوم في حلبة التنافس على السلطة وإزاحته عنها، وذلك من أجل ديمومة التمسك والاستئثار بها، وقد شملت التصفية كل التيارات المعادية له والمتمثلة في شخص رأس «النظام» تحديداً (أي معمر القذافي) ولم تكن مقتصرةً على تيار بعينه، كالتيار الإسلامي كما يدّعي البعض.

○ من كان يحكم: العائلة أي أولاد القذافي، أم مربع المخلصين له؟
•لم يكن أحد، مهما كانت علاقته به، يجرؤ على مقارعة القذافي في ممارسة السلطة المطلقة. بالنسبة لعائلته كان دورها مكملاً لممارساته وتحسين صورته محلياً ودولياً عندما يستدعي الأمر ذلك. أما من تصفونهم في سؤالكم بـ«المخلصين له» وما يصفهم البعض الآخر بـ«أنصار النظام السابق» فهو ضرب من المبالغة. في تقديري، أن هذه التوصيفات والنعوت لا تمت لواقع الأمر بصلة. بل أزعم أن الوصف الواقعي لهم بأنهم «أنصار المصالح المرتبطة بالنظام السابق» ومبرر هذا أن جل هؤلاء، وإثر إندلاع «ثورة 17 فبراير» إما «انشقوا» (مع التحفظ على هذا المصطلح لما تشوبه من انتهازية) أو فروا من ليبيا بأموال منهوبة من قوت الليبيين، أو التزموا الصمت خوفاً. كما أن العديد منهم أسهموا لاحقاً في تأجيج حالة اللاّ أمن واللاّ استقرار عبر كافة السبل، إما خشية من جرجرتهم للعدالة أو تشويه الثورة، بسبب حرمانهم من الإدمان على ممارسة السلطة واللصوصية، وعلى رأسها ما نجم عن سلوكات «الدولة العميقة». وهنا يمكن الإشارة إلى أن العديد ممن كانوا يصدحون في «ملتقيات اللجان الثورية» بشعارات ومقولات «القائد» وكتابه الأخضر مثل «التمثيل تدجيل» و «من تحزب خان» ترشحوا (عقب إلغاء «قانون العزل السياسي») لانتخابات برلمانية ورئاسية، وأصبحوا مؤسسين أو منخرطين في أحزاب سياسية!

○ كيف كان يُهدر المال العام؟
•كان وما زال يُهدَر عبر تولي السلطة، وخاصة المناصب السيادية القيادية، وفي أنظمة فاسدة مُفسدة أُبقيت الدولة (عمداً) معولة على الاقتصاد الريعي. والدليل على ذلك التهافت على تولي المناصب، ليس بالاستحقاقات المشروعة، بل بالرشى وشراء الذمم والعمالة للأجنبي ولعق الأحذية.

○ جرت محاولة لوضع دستور في إطار مشروع «ليبيا الغد» هل كانت مبادرة جدية؟
•ربما، وعلى الرغم من احتمالية توافر حسن نوايا القائمين عليه، إلا أنني أعتقد أنه كان من سلوكات وتكتيكات «رأس النظام» الماكرة والمتمثلة في تمويه الآخر، وخاصة المجتمع الدولي، عبر مسكنات موضعية تطيل أمد تمترسه في السلطة ردحا أكبر من الزمن.
○ هناك ثلاثة مظاهر ارتبطت بشخصية القذافي هي الأمازونيات والملابس غير المألوفة والخيمة العريية، هل كان ذلك لمجرد لفت الأنظار، أم هناك رسالة يتعمد إيصالها؟
•مجرد «جنون عظمة» (Megalomania) ليس إلا !

○ بعد اندلاع ثورة 17 فبراير اختلفت القراءات بين من اعتبر التدخل الأطلسي عدوانا ومن يقول إن الثورة كانت ستفشل بدونه؟
•في هذا الصدد لكل طرف قراءة من منظوره ووفقاً لمصالحه، كما أن لكل ظرف تداعياته وتأثيراته على نمط التفكير. في المراحل الأولى للثورة كان هناك موقف إيجابي قوي من جانب مؤيدي ثورة فبراير حيال التدخل الأجنبي بشكل عام، مع استهجان تام لهذا التدخل من قبل «أنصار» النظام السابق، إلى حد وصل بالبعض إلى الحاجة إلى تبرير إسقاط النظام، ولكن دون تدخل أطراف أجنبية، وهذا لم يكن ممكناً في تلك الفترة نظراً للتفاوت الكبير في ميزان القوة الداخلي. وفي مراحل لاحقة، أي منذ 2014 وبدء حالة التأزم والصراعات داخل ليبيا، ومنها الحرب بالوكالة تغيرت المواقف وفق المصالح المستجدة.

○ هل يمكن اعتبار قضية لوكربي الضربة التي قصمت ظهر النظام؟
•لا أعتقد ذلك، قضية لوكربي تم توظيفهاً سياسياً (وكورقة تفاوضية في مراحل لاحقة) من قبل «النظام السابق» والدول الغربية المعنية على حد سواء. في تقديري، أن الظروف الإقليمية والدولية المتقاطعة والمتشابكة، ناهيك عن البحث عن وسيلة لتعزيز حال اللاّ استقرار لأمد طويل في المنطقة العربية، ولأسباب تتعلق بمصالح قوى وأطراف إقليمية ودولية، هي التي تكاتفت لتشكل هذه القبضة التي ما زالت تضرب الأنظمة «المارقة» طالما أنها تشكل خطرا.
○ بماذا تفسر انتشار السلاح والميليشيات بعد 2011 هل هي «مؤامرة» كما يقول البعض؟
•هي نتاج لعوامل متداخلة ومعقدة، منها ما هو داخلي (توزيع السلاح دون ضوابط من قبل النظام السابق والحاجة إلى الحصول عليه من قبل المناهضين له) وخارجي ترسخ عبر الحرب بالوكالة.

○ هل تعتقد أن ليبيا ستشهد فعلا انتخابات قريبا؟
• لا أعتقد ذلك في المنظور القريب، والسبب، باختصار شديد، أن العوائق والعراقيل التي تحول دون ذلك ما زالت قائمة، بل وتجذرت.

○ ما هو المخرج من أزمة البحث عن مرجعية دستورية للانتخابات؟
•لا مخرج محتملٌ لأن التوصل إلى توافق حول قاعدة دستورية سينهي كل الأجسام الحالية، التي أصبحت تتنفس فساداً وقبحاً. إنهم، ومن واقع الحال، مختلفون حول كل شيء يؤسس لقيام دولة، ولكنهم متفقون على شيء واحد فقط، ألا وهو عرقلة أي مسعى لقيامها.

○ هل ستكون انتخابات برلمانية أم رئاسية؟
•لا هذه ولا تلك، ما لم تخرج الجماهير لمقارعة هذا العبث سواء باحتجاجات شعبية عارمة ومتواصلة، وهذا سيجابه بعدوانية وعنف وسفك دماء، أو – وهذا ما نأمله ونؤيده – القيام بعصيان مدني شامل ومستمر حتى تتحقق مطالب شعبنا الذي مورست ضده كافة أنواع الظلم والحيف منذ عقود، وفي دولة أنعم الله عليها بالخيرات الوافرة.

○ منذ سنوات ونحن نشهد اغتيال شخصيات عامة تتصف بالجسارة، ما الهدف من تلك التصفيات؟
•إقصاءات وتصفية حسابات شخصية أو لمصالح ضيقة، ولا علاقة لها البتة بالوطنية.

○ عندما يقول السفير الأمريكي نورلاند إن الحكومتين الحاليتين غير قادرتين على إدارة البلاد، فماذا يعني هذا الموقف؟
•الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ما زالت تتأرجح في مواقفها حيال الملف الليبي منذ إندلاع الثورة عام 2011. لذا، فإن هذا النهج هو تعبير على هذه اللاّيقينية. هذا لا ينفي حقيقة أن ليبيا ليست ضمن أولويات الاهتمام بالنسبة للمطبخ السياسي الأمريكي، بل تشكل مكونا من ملفات أكبر وأكثر إلحاحية وتعقيداً، ناهيك عن حقيقة أن لكل دولة مبرراتها في الكيفية التي توجه بها بوصلة سياساتها الخارجية وتحقيق مصالحها ومآربها، لأنها ليست بجمعيات إنسانية خيرية كما يتوهم البعض، على الرغم مما لهذه المواقف من تداعيات سلبية وخيمة على الأوضاع في ليبيا، وحياة المواطن الليبي البسيط تحديداً.

○ كيف تنظر إلى عودة الاهتمام الروسي بليبيا كما ظهر ذلك من تحركات نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف وإعلانه مؤخرا عن قرب إعادة فتح السفارة الروسية في ليبيا؟
•كما هو الحال مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من انحياز روسيا (العلني والخفي) لأطراف معينة في الصراعات داخل ليبيا (وليس النزاع الليبي- الليبي كما يروج له) إلا أن لغة المصالح وهلع التنافس على النفوذ في السياسة الدولية يستدعيان بعض المراجعات، خاصة إثر الحرب الروسية الأوكرانية، التي لا أحد يستطيع التنبؤ بما سيتمخض عنها.

○ كيف تنظر إلى الدور لتركي في الساحة الليبية؟
•ينطبق عليه ما قلتُهُ حول الدور الأمريكي والروسي، ولكن وفق دائرة النفوذ الإقليمية، مع استثناء نهج تركيا العلني والمغلف بغطاء «الشرعنة» ولو مع أطراف لا تمتلك الشرعية والمشروعية.

○ هل سيقبل أمراء الميليشيات حل هذه الأجسام وجمع سلاحها؟
•لا أرى ذلك، لأن عودها تصلب إلى حد لا يمكن أن تقبل بمثل هكذا تسويات دون إنخراطها في ممارسة السلطة وفق سياسة المحاصصة وتقاسم الغنيمة (عبر أتباعها ووكلائها) وبغض النظر عن معايير الكفاءة والنزاهة. لذا سيبقي الحال كما هو عليه. والخيار الآخر، وهو مستبعد وفق الظروف الراهنة، هو إجبارها (بمساندة قوى خارجية) على الخروج من المشهد؛ وذلك بالإدماج في مؤسسات عسكرية وشرطية وأمنية أو وطنية حقيقية أو تسريحها وإعادة تأهيلها وتوظيفها في قطاعات مدنية عامة وخاصة.

○ مع اقتراب القمة العربية في الجزائر هل تثق في دور عربي يمكن أن يساهم في حلحلة الأزمة الليبية؟
•○ القمم العربية، ومنذ بدء انعقاداتها في عام 1964 لم تكن عناوينها ومخرجاتها إلا الفشل وخيبات الأمل، لأنها، وفق مراجعة تاريخها، لم تكن إلا مسرحاً للصراعات والتلاسنات الشخصية والضيقة، وليست آلية لحل المنازعات العربية الداخلية أو البينية.

○ كشفت هيئة الرقابة الإدارية 216 قضية تتعلق بمخالفات مالية في 2021 هل تتوقع أن تكون هناك متابعة ومحاسبة حقيقيتين؟
•عبارة عن حبر على ورق كما حصل سابقاً. لا يمكن مطلقاً محاربة الفساد بآليات فاسدة، وفي واقع متسم بالفوضى والانفلات الأمني، مع تفشي ثقافة الفساد منذ عقود.

○ حذر البنك الدولي من مخاطر داخلية وخارجية ستواجه الاقتصاد الليبي، هل تشاطر هذه التوقعات؟
•لست متخصصاً في هذا الشأن، وبالتالي يتوجب إحالة هذا السؤال لذوي الاختصاص، مع تأكيدي على ضرورة احترام هذا المبدأ من قبل الجميع لأنني أستهجن أزمة استفحال التجني على التخصصات المنتشرة في عالمنا العربي (على الصعيدين الرسمي والشعبي) وهنا يحضرني المثل الشعبي العربي القائل: «أعط الخبز لخبازه».

تعليقات