حي من أحياء العاصمة تونس يعج باللاجئين الليبيين
حي من أحياء العاصمة تونس يعج باللاجئين الليبيين

مع احتفال تونس بجائزة نوبل للسلام التي تلقتها لجنة الحوار التونسية يتسلط الضوء على هذا البلد المغاربي، الذي جاءه مئات آلاف الليبيين.  تستعرض أوضاع الوافدين الليبيين وتفاعلات وجودهم في تونس اجتماعيا واقتصاديا ومؤسساتيا.

اضطر شاهين إسماعيل وهو طالب سنة أولى بالهندسة في جامعة طرابلس إلى مغادرة مقاعد الجامعة بعد أشهر قليلة فقط والتوجه إلى تونس وذلك بعد أن عانى من تجربة اختطاف على أيدي مسلحين. معاناة إسماعيل بدأت بحسب ما رواه لـ عربية عندما تعرضت شقيقته إلى الاستفزاز والشتم والملاحقة من مسلحين بينما كانت تقود سيارة صادف مرورها من أمام مقر سكن وزير الكهرباء في حكومة طرابلس الموازية.

حاول شاهين بعدها معرفة ما يحدث وسبب الملاحقة من قبل المسلحين لكنه تعرض إلى الإهانة والاعتقال لعدة أيام قبل أن يخلوا سبيله بوساطات. وأوضح إسماعيل في حديثه “قررت عائلتي بعد الحادثة أن أنتقل للدراسة في الخارج. لم يعد من الممكن مواصلة الدراسة وسط أجواء مشحونة في طرابلس”. والآن يدرس إسماعيل اللغة الألمانية بمعهد غوته الألماني في تونس وهو يخطط لمواصلة دراسته العام المقبل بأحد الجامعات الألمانية.

مد تضامني إبان الثورة

ومثل شاهين هناك الآلاف من الليبيين الذين فروا من ليبيا إلى تونس مع انطلاق الانتفاضة ضد حكم معمر القذافي منذ 2011، وتتالي النزاعات المسلحة بعد ذلك ولكن وضعهم يختلف عن باقي اللاجئين الذين وفدوا إلى البلاد. يعتبر الباحث الجامعي في كلية منوبة محمد الجميلي في حديثه مع  قناة “دوتشه فيله العربية ” أن منح صفة اللاجئ للمواطن الليبي في تونس أمر نسبي للغاية بالنظر إلى علاقات التجاور والتصاهر بين البلدين، ومن ذلك أن جزءا هاما من التونسيين هم من أصول ليبية وأشهرهم الزعيم الراحل بورقيبة أول رئيس لتونس بعد الاستقلال.

تعتبر هذه الصورة الأقرب إلى الواقع في ذروة انتفاضات الربيع العربي، فأغلب العائلات الليبية التي وفدت على تونس إبان اندلاع الثورة في شباط/فبراير2011، وحتى مع تصاعد الاشتباكات بين المليشيات المسلحة بعد الثورة كانت قد سكنت في البداية داخل بيوت مع عائلات تونسية وساهمت أغلب مدن البلاد في المد التضامني تجاههم آنذلك. وفي شهادته لـ قناة “دوتشه فيله العربية ” أفاد شريف الزيتوني، أحد سكان مدينة بن قردان التي تمثل نقطة استقطاب أولى للوافدين الليبيين لقربها الجغرافي من المعبر الرئيسي راس جدير بين البلدين، أن العلاقات الأسرية التي تربط الكثير من العائلات في المدينة بعائلات ليبية سهلت عملية الاندماج.

شاهين إسماعيل اضطر إلى مواصلة دراسته في تونس

 

 

 

 

 

 

لجوء غير مألوف

وعلى العموم فإنه على عكس الآلاف من اللاجئين الأفارقة المنتشرين في تونس ويمتهنون أعمالا بسيطة للاستمرار في العيش فإن الغالبية العظمى للاجئين الليبيين يتمتعون بوضع مرفه عموما. ويمكن بسهولة ملاحظة الانتشار الواسع للسيارات الفارهة ذات اللوحات المنجمية الليبية في الأحياء الراقية داخل المدن الكبرى وأمام المقاهي والمطاعم السياحية.

ويوضح مصطفى عبد الكبير الخبير في الشؤون الليبية وهو باحث وناشط حقوقي وعضو المركز العربي لحقوق الإنسان في حديثه مع  قناة “دوتشه فيله العربية ” أن قدوم الليبيين إلى تونس هو لجوء غير مألوف على اعتبار أن غالبية الليبيين الذي وفدوا على مدن الجنوب الشرقي القريبة من الحدود الليبية ومدينة صفاقس والعاصمة لم يوضعوا في مخيمات عدى النزر القليل منهم.

حديث عاطفي

وبحسب خارطة توزع الليبيين في تونس فإن معظم اللاجئين هم من سكان العاصمة والمدن الكبرى والمراكز الحضرية، أما الأقل ثراء فعادة ما يتواجدون في جنوب البلاد. ويشير عبد الكبير: “الحديث في تونس عن أن الليبيين بين أهلهم وفي بلدهم الثاني هو حديث عاطفي لكن الواقع يكشف عن أمر آخر”. وبحسب نشطاء الجمعيات يجد القادمون من ليبيا أثناء فترة الأزمات المتكررة في ليبيا صعوبات في البوابات الأمنية من بينها عمليات ابتزاز من الأمنيين والإيقاف أحيانا لأنهم لا يملكون تصاريح إقامة دائمة. وطارق همام من بين الوافدين الليبيين إلى تونس وهو يعمل على الحصول على تأشيرة دخول إلى أوروبا عبر إحدى سفارات دول الاتحاد الأوروبي الممثلة بتونس، لكنه شكا   لـ قناة “دوتشه فيله العربية ”  من كثرة الإيقافات التي تعرض لها من قوات الأمن والتلكؤ في التعامل معه.

ويقر الوزير المكلف بالعلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني كمال الجندوبي في حديثه مع   “دوتشه فيله العربية ” بوجود بعض المشاكل المرتبطة باللاجئين الليبيين في تونس خصوصا تلك المشاكل المتصلة بالدمج في التعليم والتنقل، إلى جانب سلوك عدد من الإدارات التونسية تجاههم. ويضيف الجندوبي في إفادته: “طلبت الالتقاء مع جمعيات ليبية لدرس هذه المواضيع وحتى نعالجها في كنف احترام القوانين. ولكن المشاكل في الواقع أعمق من ذلك وهي تتعلق بعلاقات الدولة التونسية مع الطرف الليبي إذ لا يوجد طرف يمثل الدولة لنتعامل معه”.

يقر الوزير التونسي كمال الجندوبي بمشاكل مرتبطة باللاجئين الليبيين مثل دمجهم في التعليم وسلوك الإدارات التونسية تجاههم.
يقر الوزير التونسي كمال الجندوبي بمشاكل مرتبطة باللاجئين الليبيين مثل          دمجهم في التعليم وسلوك الإدارات التونسية تجاههم

 

 

 

 

 

 

        أعباء مالية

ويوضح عبد الكبير لـ قناة “دوتشه فيله العربية ”  قائلا  “ا لكثيرون فروا في عام 2011 ولا يملكون جوازات سفر ولم تعترف بهم مفوضية اللاجئين كلاجئين لكن استقبلتهم الدولة بحكم علاقات الجوار. الآن يجب أن يتمتعوا بوثائق قانونية تعفيهم من سؤال الطريق. مثل هذه المشاكل تحدث بشكل يومي”. ولا توجد أرقام دقيقة لعدد اللاجئين الليبيين في تونس لكن وزارة الداخلية كانت أشارت إلى أنهم لا يقلوا عن مليون شخص، وهم يشكلون بذلك نحو 10 في المئة من سكان البلاد. ومثل هذا العدد يمثل في الواقع تحديا كبيرا لدولة ما زالت تعاني من صعوبات اقتصادية بعد فترة انتقال سياسي عقب ثورة 2011 ضد حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

وفي قمة دول السبع التي احتضنتها برلين في أبريل/نيسان الماضي كشف الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي بأن الأعباء المالية المتربة عن توافد الليبيين إلى تونس بلغت 5.7 مليار دينار تونسي. وعلاوة على الأعباء المالية بدأ شيء من التململ داخل المجتمع التونسي بسبب الارتفاع الملحوظ للأسعار خاصة في قطاع السكن.

أزمة السكن

ويوضح الزيتوني أن البيوت في بن قردان – ومع اشتداد النزاع المسلح – لم تكن تخلو من عائلات ليبية، سواء تلك المتصاهرة مع عائلات تونسية أو تلك المؤجرة لمساكن، لكنه شدد على أن الأمر لم يكن فعلا خال من إشكالات خاصة فيما يتعلق بارتفاع أسعار المواد التموينية وندرة المساكن المعدة للإيجار.

وفي هذه النقطة بالذات يشير الزيتوني “تصاعدت أزمة السكن في بن قردان وفي مركز الولاية بمدنين وفي تطاوين المجاورة. حجز الليبيون تقريبا أغلب المساكن المخصصة للإيجار والنزل وأحدث ذلك ضغطا سكنيا خاصة لدى الطلاب التونسيين”. وفي الواقع ليس التونسيون وحدهم من يعانون من مشاكل السكن، إذ تكشف شكاوي الليبيين أيضا عن اتجاه المضاربين الملاك إلى استثمار تواجدهم أكثر ما يمكن للتربح من طفرة الإيجار السكني”.

ومثلا يغلب على سكان حي النصر الراقي القريب من وسط العاصمة الوافدون الليبيون. ويمكن أن يرتفع إيجار الشقة ليوم واحد بالنسبة لعائلة ليبية إلى نحو 100 يورو. وقال إسماعيل شاهين: “سكنتُ لأسبوع واحد مع عائلتي في حي النصر. لكن عندما غادرت عائلتي اضطررت بعدها للانتقال إلى مسكن لوحدي قرب معهد غوته الألماني بإيجار في حدود ألف دينار تونسي”. وتحدث طارق همام أيضا أن مالكة الغرفة التي يسكن بها في حي النصر عمدت إلى ابتزازه وطالبت بزيادة في الإيجار بعد أيام فقط من سكنه.

انتشار واسع للسيارات الفارهة الليبية في الأحياء الراقية في مدن تونس الكبرى وأمام المقاهي والمطاعم السياحية.
انتشار واسع للسيارات الفارهة الليبية في الأحياء الراقية في مدن تونس الكبرى وأمام        المقاهي والمطاعم السياحية.

 

 

 

 

 

 

 

تبعات اقتصادية ايجابية

وبخلاف مشاكل قطاع العقارات فإن اهتمامات الحكومة تركزت بشكل خاص حول مراجعة منظومة الدعم التي تستفيد منها الجالية الليبية الضخمة في تونس وتشمل البنزين نفسه المستورد من ليبيا. وتجد الحكومة التونسية صعوبة في تحريك هذا الملف، يترافق ذلك مع إلغائها لضريبة العبور على الحدود والمفروضة على المسافرين الليبيين بعد أن كانت قد فجرت قلاقل على الحدود بين البلدين.

ولكن مع كل هذا فإن تدفق الليبيين على تونس بحسب المراقبين يحمل في طياته الكثير من الإيجابيات كذلك، فمن دون شك عاد ذلك بالنفع على الفنادق والمطاعم والقطاع السياحي المتعثر والمدارس الخاصة وتجارة التجزئة وغيرها من القطاعات. وتفيد بعض التقديرات إلى أن الليبيين يضخون سنويا مليار يورو في الاقتصاد التونسي.

وبين الخبير الاقتصادي والمالي عز الدين سعيدان أنه بخلاف أزمة السكن واستهلاك المواد المدعمة وتأثير ذلك على موازنة الدولة، فإن للتواجد الليبي تبعات ايجابية أيضا من بينها الحد من العجز التجاري. إذ ساهم الليبيون برفع الصادرات التونسية المدفوعة بالعملة الأجنبية بفضل ارتفاع الاستهلاك، كما أحدثوا طفرة في سوق العقارات ومكن تواجدهم من تسويق جزء من الفائض العقاري الموجه إلى أصحاب الدخل العالي وأصحاب رؤوس الأموال.

لكن سعيدان يؤكد في جانب آخر من تحليله أنه “من الصعب استقطاب الليبيين في مشاريع استثمارية أبعد من ذلك بسبب مناخ الاستثمار غير المشجع في تونس خلال هذه المرحلة الدقيقة، إلى جانب أن وضع أغلبية الليبيين في تونس يتسم بطبيعة مؤقتة ومرتبط بتطور الأوضاع في ليبيا”.

تعليقات